حلب بين تاريخها المشرق ومحنتها الراهنة.. بقلم: كرم الحلو

حلب بين تاريخها المشرق ومحنتها الراهنة.. بقلم: كرم الحلو

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٤ ديسمبر ٢٠١٦

لو كان للتاريخ عينان لفاضت دموعه أسى فيما هو يشاهد حلب طلولاً وخرائب، وأهلها هائمين مشردين يطاردهم القهر والجوع والموت. ولو بعث ابن الرومي من جديد لتفوق في رثائه لحلب على رثائه للبصرة، فإذا كانت البصرة «قبة الاسلام» كما وصفها ابن الرومي، يوم استباحت مجدها وتاريخها قوى همجية، فإن حلب المستباحة، عمراناً وبشراً وحضارة وتاريخاً، هي قبة النهضة العربية ورائدة الحداثة والحرية والتقدم وحقوق الانسان في العالم العربي. حلب امتازت منذ القرن السادس عشر بمركزها التجاري كنقطة مهمة في طريق المواصلات الى أوروبا، ومحطة كبرى للطرق الداخلية، بحيث اعتبرت ملتقى للمبادلات العالمية بين قارتَي أوروبا وآسيا. وصفها المؤرخ مارتينو بقوله: «بيوتها مبنية من قطع ضخمة من الحجر، مريحة ومزينة بزخارف جميلة من الداخل، يقطن الأوروبيون منها أحياء الوسط». ومن هذه الأحياء حي «الصليبة» الذي تأسس في القرن الخامس عشر، وقد تميز بشيوع الروح الغربية فيه، عبر العلاقات التي ربطته على نحو اجتماعي عميق بالجاليات الغربية، إضافة الى تميزه بالثراء والترف والرفاهية، ودُوره ذات البهاء والجمال.
ويتفق المؤرخون على ان النهضة الأدبية في بلاد الشام كان بدؤُها في حلب في القرن الثامن عشر، حيث تعمق عدد من المسيحيين في علوم اللغة العربية على يد مشايخ الدين الاسلامي، ومن هؤلاء، وفقاً للمؤرخ ألبرت حوراني، امتدت شعلة الأدب العربية الى لبنان. وفي ذلك يقول مارون عبود في «رواد النهضة العربية الحديثة»: «عن حلب الشهباء أخذ لبنان لغة الضاد».
وحلب الرائدة فن الطباعة العربية، فيها أنشئت أول مطبعة عربية سنة 1702 على يد البطريرك أتناسيوس الدباس، ومنها قدم الى لبنان عبد الله الزاخر أبو الحرف المطبعي العربي، وفيها أنشأ المطران جرمانوس فرحات في القرن الثامن عشر مجمعاً علمياً ضم أشهر علماء عصره. وكان لهذا الأسقف بإنشائه القواميس العربية، الفضل الكبير في ترسيخ اللغة العربية في عصر غلبت فيه العجمة على العربية، ومن حلب انطلق رزق الله حسون لينشئ في الآستانة أول صحيفة عربية العام 1855. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عرفت حلب أدباء ومفكرين أسهموا اسهاماً مركزياً في حركة التنوير العربية، مثل جبرائيل ونصر الله دلال وقسطاكي الحمصي وعبد الرحمن الكواكبي.
ولعل في مقدمة هؤلاء آل المراش الذين اعتبروا، وفق فيليب دي طرازي في «تاريخ الصحافة العربية» في منزلة اليازجيين والبساتنة في لبنان، فإنهم أيقظوا روح المعارف في أبناء وطنهم، وخدموا العلوم بالتأليف والصحافة، وأمدوا حركة التنوير العربية بومضات باهرة، حيث كان فتح الله مراش ومعه المتنور الحلبي رزق الله حسون يرسلان شعاع الحرية الى أبناء سوريا من لندن وباريس، على حد تعبير فارس نمر. وبرز من آل المراش الأديب والعالم المهجري عبد الله الذي وصفه ابراهيم اليازجي بكوكب المشرق الطالع في سماء المغرب. أما مريانا مراش فقد كانت وفقاً لطرازي «أول سيدة سورية أنشأت مقالة في مجلة أو جريدة، والكاتبة الأولى التي نشرت أفكارها في الصحف العربية». كتبت في «الجنان» تحث بنات جنسها على الشروع في الكتابة، وأسست أول صالون أدبي في الشرق العربي، في زمن كان فيه محظوراً على النساء العربيات، إلا نادراً، تعلم القراءة والكتابة.
وفي حلب كتب فرنسيس المراش العام 1861 «دليل الحرية الانسانية» والعام 1865 روايته «غابة الحق». فكان أول من أعاد انتاج فكر روسو في العقد الاجتماعي في الفكر العربي الحديث، وأول من نادى بإبطال الرق على أساس الحق الطبيعي، وأول من أقر بحقوق الفئة البائسة في المجتمع وفي السياسة، وبالمساواة السياسية بين المواطنين. وكان في مقدمة النهضويين بإقراره بحقوق المرأة في الكرامة والتعليم واختيار الزوج، وفي طليعة المنادين في الفكر العربي بحرية الاعتقاد والرأي ومرجعية العقل في التعليل والتأويل والاجتهاد. كما كان رائد التجدد في الأدب واللغة، وأول من تلقف آراء داروين في الفكر العربي، وأول من انتقد الوجه المتوحش لليبرالية الغرب، ما يضعه في طليعة المؤسسين لحقوق الانسان الطبيعية في الفكر العربي.
وفي حلب كتب جبرائيل دلال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قصيدة «العرش والهيكل» التي تضمّنت خلاصة الأفكار الليبرالية في عصره، ونقداً لاذعاً لاستبداد الملوك والحكام ورجال الدين، وكانت السبب في سجنه وإعدامه ليغدو أول شهداء الليبرالية العربية. وفي حلب قارع الإمام عبد الرحمن الكواكبي الظلم والاستبداد، وكتب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، أول نقد منهجي جذري في الفكر العربي للاستبداد وآثاره الوخيمة على السياسة والأخلاق والتربية.
وعُرفت حلب، الى جانب ذلك كله، بتسامح أهلها وانفتاحهم وبعدهم عن الأحقاد الطائفية، فظلت في منأى عن الفتن التي عصفت بلبنان ودمشق عام 1860، حتى ان النساء الحلبيات، إثر أحداث شغب محدودة في خمسينيات القرن التاسع عشر، عمدن الى اخفاء مطران حلب بجلابيبهن كي لا يتعرض للأذى، ما حدا بالمتنور الحلبي فرنسيس المراش الى القول: «رعياً لكم يا ساكني حلب، فما زلت بكم قدم ولا خنتم قسم، والجار ملتزم بإخلاص الوفا للجار في البلوى فبينهما ذمم».
فهل كُتِب لحلب هذه، حلب التاريخ والنهضة والثقافة والفكر والحرية، كل هذه المعاناة، وكل هذا الشؤم؟ هل تصور متنوروها ان تؤول مدينتهم الى ما هي عليه اليوم من بؤس وخراب؟ هل ستستسلم حلب لقدرها أم أنها ستنهض كما نهضت دائماً عبر تاريخها بعد كل المحن الكبرى التي أصابتها؟
لعل في ما وصف به المراش حراك التاريخ وانقلاباته ما يعيد الأمل في نهوض حلب من جديد، اذ قال في قصيدة «نبوة الماضي»: «كل ما قد كان سوف يكون، هذا نبي صادق لا يخون. ما كان ليل قط إلا له صبح، فما قد كان سوف يكون. ذي سير الأيام سائرة، وشأنها تبديل كل الشؤون».