هل قال القرآن كلّ شيء؟.. بقلم: علي نسر

هل قال القرآن كلّ شيء؟.. بقلم: علي نسر

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٣ ديسمبر ٢٠١٦

لم يُوَلِّد نزولُ القرآن خلافاتٍ في المستوى الذّي عرفناه بعد إتمام تنزيله. فلم يتفاجأ العرب بالوحي، لأنّ عقولهم كانت مروّضة على وجوده. وبمعناه اللغوي والاصطلاحي، تمّ تداوله في الشعر الجاهلي قبل الدعوة. ويعود الفضل في هذا إلى وجود الديانتَين المسيحية واليهودية في جزيرة العرب المنغمسة في عبادة الأوثان. فلم يرفض العرب، وقتها، فكرة الوحي، واتصال الأرض بالسماء، إنّما رفضوا المُوحَى إليه وبعض مضامين الوحي. وكان مردّ ذلك يعود إلى عوامل اقتصادية وطبقية، لأنّ بزوغ فجر الاسلام هدّد كيانات الأسياد ولوّح بالقضاء على امتيازاتهم ونفوذهم. لكنّ الخلافات التي وصلت إلى مراحل دموية، ولمّا تزل تجترّ نفسها، بدأت بعد وفاة الرسول. وتعدّ الآية الأخيرة (اليوم أكملت لكم دينكم)، من الانطلاقات الأساسية لشرارة هذه الخلافات والصراعات بين الفرق الفكرية، وأصبح القرآن وليمة مفتوحة للمتصارعين، يستمّد كلّ طرف ما يشرِّع أفكاره وأيديولوجيته القائمة على تكفير الآخر ومحاولة إقصائه، متوسّلين العنف أكثر من الحوار.
منذ وفاة النبي (ص) تعاني المجتمعات الاسلامية تصدّعاتٍ، تتفاوت وتيرة مخاطرها بين مرحلة وأخرى. لكنها تصدّعات وصلت إلى تخوم العقيدة نفسها، وأصبحت شعارات إعادة النظر في العديد من الثوابتِ، متداولةً، مُوَلِّدة جرحًا نرجسيًّا لما كان مقدّسًا لا مساس بقراءاته. ومن أبرز الأسباب التي تجعل المسلمين عمومًا مشدودين نحو الخلف، مُقدِّسين الماضي وصفاءَ النبع، معتبرين أنّ السلف أكثر فهمًا ومعرفة من الخلف، هو الاعتقاد المطلق بأنّ الله قال كلّ شيء في القرآن، وأنّ آياتِه وسورَه أبديّة الأحكام، وبعضهم قال بأنها سرمدية أيضًا. حصل هذا من دون الاكتراث إلى عوامل التنزيل والأسباب الاجتماعية لحركة الناس وقتها، التي استدعت التنزيل وظهور الدعوة، نظرًا إلى الحاجة الملحّة إلى ذلك. والدّليل أن الكثير من الآيات نزلت لتدبير شؤون مرحلية، بالاضافة إلى التغيير والتبدل اللذين طرآ على الآيات والسور بين مرحلة وأخرى. لم تكن الآيات الأخيرة تخاطب عقول الناس أينما وجدوا، وفي مختلف العصور، إنما توجّهت إلى المُخاطَبين المُتَحَلِّقين حول النبيّ، مراعية مستوى العقول والقدرة على التقبّل. فكيف يمكن أن يقول الله كلّ شيء بالمعنى الحرفي، وهو القائل أنّ البحار تنفد ولا ينفد كلامه؟ فسيرورة الانطلاق نحو الله، لا يمكن أن تُحَدَّ في ظرف معيّن، لأنّ الوصول إلى الله والمطلق عبر القرآن كمنهاج السلوك، يؤكّد أن القرآن أوله عند الله لكنّ آخره عند الانسان المتحوّل والمتغيّر باستمرار، ومرتقي المراقي في الاطلاق كما يقول المفكر السوداني المسلم محمود محمد طه.

حرية الاختيار
إنّ التراجع عن فكرة قول القرآن كلّ شيء، يسهم في الاجتهاد والخروج على حرفية النص في مرحلة ما، وإعمال العقل في ما لم يرد واضحًا في الكتاب والأحاديث. وقد تنبّه الأوائل إلى ذلك، وأكثر ما يظهر ذلك في توصية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في رسالته القضائية إلى أبي موسى الأشعري التي تحثّه على جعل العقل الحكم الأساسي في ما هو غير متداول. وهذا يؤكّد عدم القول المطلق والمتناهي في الكتاب الشريف (الفهم الفهم في ما تلجلج في صدرك ممّا ليس في كتاب أو سنّة، ثمّ اعرف الأشباه والأمثال، فقسِ الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق). وهذا التراجع عن ذاك الاعتقاد، يعيد للفرد حرية الاختيار التي نادى بها الإسلام بآياته، لما يمتلكه المرء من قدرة على ذلك، لأنّ لا أحد مكتملا ليكون مُؤتَمَنًا على حرية الآخرين والحد منها. فإنّ الرسول نفسه، وهو من خيرة خلق الله، كان ساعيًا إلى الكمال الانساني بعكس ما يدّعي البعض بأنه مولود قبل الوجود، فهو في سعــــي دؤوب نحو الكمال المعرفي والعقلي والعلمي (ربّي زدني علمًا). وبرغم قيمته عند الله، إلا أنه لم يفوّضه حق حرمان الآخرين من الحرية في الاختيارات (فذكّر إنّما أنت مذكّر، لست عليهم بمسيطر).
إنّ العودة إلى الزمن النـــبويّ، لا يعني التقوقع في أصدافه بحجة الحفاظ على الهوية، بل ينبغي الاتيان به إلى أيامنا للقفز نحو الأمام. فما يحيط بهذه الأمة منذ قرون من حروب وقـــتل، مردّه الأساس يعود إلى الاعتقاد الملتبس بأنّ ما قيل زمن النبيّ يمكن أن يكون أبديّ الأحكام، متناسين أن القراءات يجب أن تخــــتلف لدى المُتَلَقِّين عبر تعاقب الأزمان، وهذا ما يحافظ على إعجـــاز القرآن ويسمح بتحريره من الثبات والتحجّر. فالــظروف المتغيرة تسـتدعي قراءات جديدة وتعديلات في الأحكام أكثر حداثة، بما يتناسب مع عظمة هذا الكتاب.