أستانة 4 ومراوغة قوى العدوان: العلاج في الميدان

أستانة 4 ومراوغة قوى العدوان: العلاج في الميدان

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣ مايو ٢٠١٧

العميد د. أمين محمد حطيط

ما إن حقّقت سورية وحلفاؤها النصر الاستراتيجي الكبير في حلب، حتى سارعت روسيا للدعوة الى اجتماع استانة ليكون إطاراً لوقف العمليات القتالية، واستئناف العملية السياسية التي تقود الى حلّ يؤكد على مرجعية الشعب السوري في تقرير مستقبل سورية وكلّ ما يتصل بهذا المستقبل من شؤون الحكم وشكل الدولة ونظامها ومَن يتولى السلطة فيها.

لقد استغلت روسيا لحظة حاسمة في إطلاق دعوتها، لحظة تشكلت من انتصار الدفاع عن سورية في حلب، وانكسار تركيا وإطاحة آمالها هناك، وانشغال أميركا في «مرحلة الكوما» التي تفصل بين ولايتين رئاستين، فاستغلّت روسيا ذلك ودعت تركيا لتكون شريكاً في منظومة رعاية «وقف الأعمال القتالية» رغم علم القاصي والداني بأنّ تركيا هي أحد المكوّنات الرئيسية في العدوان على سورية ورعاية الإرهاب فيها، ولكن كان لا بدّ في الحسابات الروسية من وجود تركيا في المنظومة لضمان فعاليتها ونجاحها لكونها من معسكر العدوان، واستجابت تركيا للدعوة، استجابة المضطر الذي ليس بين يديه حلّ آخر.

لقد حققت اجتماعات أستانة 1 ثم 2، جزءاً معقولاً مما عوّل عليه فيها، إن لجهة الميدان وصياغة تفاهمات حول وقف العمليات القتالية، او لجهة تصويب المسار السياسي ما أدى الى استئناف أعمال جنيف بعد أن كانت اميركا أوقفتها في نيسان/ ابريل 2016 أشارت للإرهابيين بالعودة الى الميدان لتفجير الجبهات من أجل الحصول على أوراق تُصرَف في المفاوضات وتحسّن مواقع قوى العدوان على سورية.

وقد تمدّدت مفاعيل انتصارات سورية التي حكمت اجتماعات أستانة الى اجتماعات جنيف 4 بعد أن اضطر دي ميستورا للدعوة إليها، فكان نجاح سوري فيها ترجم بالاستجابة للمطالب السورية بوضع الإرهاب ملفاً رئيسياً موازياً لأيّ بحث آخر. والكلّ يعلم أنّ العدوان إذا جُرّد من الإرهاب وهو سلاحه الرئيسي فإنّ نهايته الحتمية الى الفشل تصبح مؤكدة.

لم تكن أميركا مسرورة بالمشهد العام في جنيف 4، لذا تحرّكت قبل أستانة 3 لتكبح اندفاعة تركيا فيها، وكان اتصال يومها من الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب برجب أردوغان أفضى الى انقلاب تركي على التعهّدات السابقة، وعرقلة مباحثات أستانة 3 تبعه أيضاً نوع من تراجع او جمود في جنيف 5. وكان واضحاً أنّ سياسة العودة الى الميدان هي ما تتجه اليه قوى العدوان بقيادة أميركية لممارسته تماماً كما حصل في العام 2016 خلال جنيف 3.

نعم لم تكن أميركا – الدولة العميقة راضية على مسار الأحداث من أستانة الى جنيف في ظلّ وعود ترامبية انتخابية بالتركيز على محاربة الإرهاب بشكل فعلي، وتجنّب الخوض في مسائل الحكم والسلطة في سورية باعتبارها أموراً تعني شعبها فقط، كما لن تكون متقبّلة مشهد تبدو فيه روسيا مرجعية أساسية في شأن دولي هامّ هو الأزمة السورية، لا بل وتتقدّم على الدور الأميركي الى حدّ بعيد، بالإضافة الى إدراك الدولة العميقة بأنّ أيّ تحريك للمسار السياسي في ظلّ اختلال التوازن الميداني لصالح معسكر الدفاع عن سورية، سيؤدي إلى تكريس هزيمة معسكر العدوان على سورية وضياع جهود 6 سنوات من «الفوضى الإرهابية المدمّرة» بقيادة أميركية.

لذلك رأت الدولة العميقة في أميركا أنّ عليها أن تبادر الى عمل سريع يوقف انهيار القوى الإرهابية في الميدان، ويوقف اندفاعة الجيش العربي السوري وحلفائه ويمنعهم من تحقيق المزيد من الانتصارات الكبرى التي تزيد من حالة الأرجحية في الميدان لصالح سورية، كما تمنح أميركا الوقت اللازم لإعادة تقييم الموقف وإطلاق خطة جديدة تكون كفيلة باحتواء الوضع وتعويض الخسائر وإنقاذ الهيبة.

استجابة لهذه المتطلّبات، قامت قوى العدوان بشنّ الهجوم المزدوج على شرق دمشق وريف حماة الشمالي. هجوم تزامن مع عدوان «إسرائيلي» جوي مباشر على سورية لدعم الإرهابيين، تلاه تلفيق مسرحية الكيماوي في خان شيخون التي اتخذتها اميركا ذريعة للعدوان الصاروخي الأميركي على سورية بقصف مطار الشعيرات بـ 59 صاروخ توما هوك، وتوّج التحرك العدواني بإطلاق خطة «الأقاليم الانفصالية الثلاثة.

في مواجهة هذه الحلقة من العدوان، دافعت سورية وحلفاؤها عن مكتسباتها بشكل علمي هادئ مدروس بعيداً عن الارتجال والانفعال، وطبعاً بعيداً عن الغوغائية والاستدراج، وردّت على العدوان وفقاً لقواعد الردّ الناجع الذي يرتكز على منطق التمييز بين الأعمال العسكرية الحربية التي تقود إلى تحقيق أهداف عملانية واستراتيجية محدّدة وتكسر إرادة العدو، وبين الأعمال الإجرامية التي لا غاية لها إلا القتل والتدمير. وكان ردّ سورية ومحور المقاومة والحلفاء معها متّجهاً إلى إسقاط أهداف الهجوم والتشبّث بالمواقع وحصاد المزيد من الانتصارات الميدانية.

وهذا ما كان بالفعل في الميدان من دمشق الى حماة، الى التعامل مع العدوان «الإسرائيلي» بما ثبّت معادلة الردع وعطل مفاعيل التدخل، الى التعامل مع العدوان الأميركي بما عطل مفاعيله، مروراً بمواجهة مسرحية خان شيخون ومنع المجرم من استثمار جريمته، وانتهاء بالردّ الحاسم على خطة الأقاليم الثلاثة، حيث قاد الرئيس الأسد شخصياً الهجوم السياسي عليها، كما هو عهده في المواقف الصعبة.

وجاءت نتيجة المواجهة لصالح سورية التي يمكنها القول بأنها أحكمت خطتها الدفاعية بشكل منع العدو من امتلاك أيّ ورقة في الميدان، حيث إنّ جبهة دمشق تهاوت أمام الجيش العربي السوري واستكمل الإرهابيون انهيارها باقتتالهم بما سيفتح الطريق لإخراجهم جميعاً وكلياً منها، كما انّ انتصارات الجيش في حماة لم تتوقف عند احتواء الهجوم الإرهابي بل تطورت وتوسعت مواقعه الى ان باتت على مسافة 20 كلم من حدود محافظه إدلب الإدارية ليوجّه رسالة قوية إنّ سورية لن تسمح بإقامة الإقليم الانفصالي هناك، أما ثبات الجيش في الجنوب فقد كان مع المواقف الحازمة للقيادة السورية كفيلاً بأن يفرض على الأردن التراجع – أقله الآن – عن المساهمة في مشروع «إقليم الجنوب»، وأخيراً كان الصراع الكردي التركي الدموي في الشمال الشرقي كافياً لتجميد معركة الرقة وتالياً إقليم الشمال الشرقي، والنتيجة تعاظم أرجحية سورية في الميدان. وفي ظلّ هذا المشهد يعقد أستانة 4، فهل سيحقق جديداً؟

هنا نذكّر بأنّ المهزوم في الميدان يذهب الى التفاوض من أجل الإقرار بالهزيمة والاستسلام، او من أجل المراوغة والتسويف لكسب الوقت للعمل على تحسين مواقعه. وقد يرى البعض في الاتصال الهاتفي الذي جرى قبل ساعات من بدء اعمال أستانة 4 بين ترامب وبوتين والإعلان عن تفاهمهما حول وجوب محاربة الإرهاب ووقف العنف في سورية نوعاً من توطئة لتوفير فرص نجاح الاجتماع، لكن موقف الخارجية الأميركية وببيان مكتوب ينسف هذا الظنّ ويؤكد انّ اميركا غير مكترثة بالاجتماع ولا تنتظر منه في صيغته القائمة وفي ظرفه شيئاً، ولذا لم تشارك فيه بأكثر من مراقب يسمع ويسجل ظاهراً ويعرقل ويمنع باطناً.

إنّ أميركا كما نعتقد لم تصل بعد إلى قناعة بأنّ عليها الاعتراف بفشل عدوانها والخروج من الميدان السوري، بل لا تزال تؤمل بنجاح ما حتى ولو كان على سبيل جوائز الترضية، ولذلك نراها تستمرّ في تحشيد قوى هنا وتركيب تحالفات هناك وتلفيق أكاذيب هنالك من أجل الاستمرار في العدوان، وقد يكون في جديدها مسرحية كيماوي أخرى من أجل إعطاء دفع إضافي للعدوان عبر عمل عسكري مباشر محدود ضدّ سورية.

ولهذا، ولأنّ أستانة 4 بحاجة الى عمل من الفريق الآخر المشارك في العدوان على سورية حتى يحقق شيئاً ما، فإننا ومع حال أميركا هذه، لن نعلّق كثيراً على اجتماعات أستانة 4 أو جنيف المنتظرة في آخر هذا الشهر كما قيل، ومع هذا فإنّ المراوغة الأميركية لن تُعدم هذه الاجتماعات قيمتها اذ يكفي انعقادها – مجرد انعقادها – بالصيغة التي انطلقت فيها وبمرجعية روسية لنقول إنها مفيدة في تكريس واقع أفول نظام الأحادية القطبية، لصالح التعدّدية، وإنّ فيها رسائل لمن اعتدى على سورية بأنّ معسكر الدفاع جاهز على الاتجاهين، الميداني حيث يحصد الانتصارات مع استمرار المواجهة الدفاعية الفاعلة حتى يقتنع المعتدي بفشله ووجوب وقف عدوانه، والسياسي حيث تُصرَف الانتصارات ويؤكد على حق الشعب السوري بالسيادة والقرار المستقلّ الذي من أجله قدّم كل هذه التضحيات.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

البناء