التوجّهات الانفصالية لكاتالونيا.. بقلم: د.إدريس لكريني

التوجّهات الانفصالية لكاتالونيا.. بقلم: د.إدريس لكريني

تحليل وآراء

الجمعة، ٦ أكتوبر ٢٠١٧

عاد التوتر من جديد إلى منطقة كاتالونيا بإسبانيا على إثر إقدام السلطات المحلية على تنظيم استفتاء يدعم الطروحات الانفصالية للإقليم؛ وهي التوجهات التي برزت قبل سنوات وتنامت بشكل متصاعد في الآونة الأخيرة تحت ضغط مجموعة من الأسباب والخلفيات.
تشير الكثير من الدراسات والتقارير إلى أنه وبالإضافة إلى العوامل التاريخية المتّصلة بتداعيات مرحلة «فرانكو»؛ أسهمت الأزمة المالية وما خلّفته من معضلات اجتماعية في إذكاء الشعور الانفصالي في المنطقة؛ حيث تزايد الاستياء من السياسات الاجتماعية والمالية التي باشرتها الحكومات المتتالية في إطار تطبيق البرامج التقشفية التي أوصى بها الاتحاد الأوروبي لأجل التخلص من تداعيات الأزمة؛ والتي كانت تبعاتها سلبية على الاقتصاد والمجتمع المحليين؛ وهو ما أسهم بصورة ملحوظة في تزايد المطالب الداعية إلى تجاوز التبعية الضريبية لإسبانيا.

سبق لرئيس الإقليم «آرتور ماس» أن وقع مرسوما يقضي بتنظيم استفتاء حول استقلال الإقليم في التاسع من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني للعام 2014 بعد مرور أيام قليلة على مصادقة البرلمان الكاتالوني على قانون في هذا الصدد، غير أن المحكمة الدستورية الإسبانية قضت في قرار لها بتعليق هذا الإجراء ورفضه.
وبعد تنظيم الانتخابات المتعلقة بالبرلمان المحلي للإقليم التي جرت يوم 27 سبتمبر/أيلول 2015؛ والتي أفرزت فوز القوى المؤيدة لاستقلال الإقليم بنسبة مهمة من المقاعد؛ بعدما حصل التيار الانفصالي على 72 مقعداً من أصل 135؛ اعتبر البعض هذه النتائج بمثابة استفتاء غير مباشر يجسّد الرغبة في الانفصال ويدعم الحق في بناء دولة مستقلة.
وفي مقابل هذه التطورات وتصاعدها؛ حرصت السلطات الإسبانية المركزية على محاصرة التوجهات الانفصالية بتفعيل المقتضيات الدستورية ذات الصلة؛ كما حذّرت غير مرة من تبعات أي مبادرة يمكن أن تمس الوحدة الإسبانية وتهدّد سيادة البلاد.
وفي تحدّ واضح لسلطات مدريد؛ تمّ تنظيم استفتاء بكاتالونيا في الفاتح من شهر أكتوبر 2017؛ لم يخل من توتر بفعل تدخل السلطات الأمنية المركزية لمنعه عبر إغلاق مراكز الاقتراع وتفريق المتظاهرين.. ما خلّف إصابات في صفوف المحتجّين وقوات الشرطة بحسب تقارير إعلامية..
يمكن تناول التوجّهات الانفصالية في الإقليم من زاويتين، الأولى سياسية؛ وهي تسائل في عمقها مسار التحول الديمقراطي في إسبانيا بما يحيل إليه الأمر من إشكالات تتّصل بحدود تدبير التنوع المجتمعي بصورة بنّاءة ومراكمة تجربة ديمقراطية محلية تدعم الوحدة.. وما يطرحه الواقع المتغير من مواكبة وتطوير للضوابط والقواعد المؤطرة لعلاقة المركز بالأقاليم المحلية.. والثانية قانونية؛ تطرح معها الكثير من الإشكالات في ارتباط ذلك بالشرعية التي تجسدها الدساتير ومبادئ القانون الدولي التي تدعم وحدة الدول وعدم تجزئتها، وكذا المفهوم المتطور لمبدأ حق تقرير المصير والذي لا يعني بالضرورة الانفصال، وبخاصة وأن قواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة تؤكد سيادة الدول..
وفي هذا السياق؛ يؤكد الدستور الإسباني في فصله الثاني الوحدة المتماسكة للأمة.. ويعترف للقوميات والمناطق التي تشكله بحق الحكم الذاتي، فيما يشير الفصل 153 منه إلى أن المحكمة الدستورية تضطلع بمهمة مراقبة أجهزة مناطق الحكم الذاتي، ومدى دستورية المقتضيات التي يتم إنزالها بمثابة قانون في هذه المناطق. ويضيف الفصل 155 منه إلى أنه في حال عدم التزام منطقة الحكم الذاتي بالواجبات التي يفرضها الدستور، يمكن للحكومة بعد إشعار رئيس المنطقة ومصادقة الأغلبية المطلقة لمجلس الشيوخ، اتخاذ التدابير الضرورية لإلزام المنطقة بالقيام الإجباري..
في الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة الكاتالانية على أن نتائج الاستفتاء جاءت مؤيدة للانفصال بنسبة تضاهي 90 بالمائة، عبرت الحكومة المركزية في شخص رئيسها «ماريانو راخوي» عن رفض هذا الأمر على اعتبار أن الاستفتاء لم يحدث أصلا استنادا إلى مقتضيات الدستور التي تحمي وحدة الدولة وسيادتها..
تصرّ بعض القوى السياسية المحلية في كاتالونيا على اعتبار الاستفتاء تعبيرا يجسّد الرغبة في الاستقلال؛ وهي الرغبة التي رافقتها دعوات محلية للاتحاد الأوربي لأجل القيام بدور يدعم هذا التوجّه..
وفي الوقت الذي عبّرت فيه القوى المحلية في كاتالونيا عن رفضها وإدانتها لاستخدام القوة من قبل السلطات الإسبانية لمنع حدوث «الاستفتاء»، اعتبرت هذه الأخيرة أن الأمر يتعلق بتدابير ضرورية اقتضاها «الواجب» والدستور واحترم فيه تفويض القضاء الذي أكّد قبل ذلك على منع هذا الاستفتاء..

ومن جانبه؛ اعتبر الاتحاد الأوروبي أن تنظيم هذا الاستفتاء يتنافى بشكل واضح مع مقتضيات الدستور الإسباني؛ فيما أكّدت المفوضية الأوروبية في نفس السياق أن استخدام العنف لا ينبغي أن يكون وسيلة لتدبير المشاكل السياسية..
حقيقة أن تصاعد التوجهات الانفصالية في إقليم كاتالونيا وما تمخض عنها من أزمة دستورية غير مسبوقة بما انطوت عليه من توتر؛ هي محطة مهمة يفترض أن تشكل أرضية للبحث عن السبل الناجعة والكفيلة بإرساء توازن بين دعم وحدة الدولة من جهة؛ واحترام حقوق الإنسان وتدبير التنوع بصورة ديمقراطية من جهة ثانية، ومناسبة للوقوف على العوامل التي فجرت هذا التوجه الانفصالي؛ في علاقتها بتداعيات الأزمة المالية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة بالمنطقة، وفي ارتباطها أيضا بمختلف الضوابط والقواعد التي تنظم العلاقة بين السلطات المركزية في مدريد ونظيرتها المحلية بما يدعم تطوير المسار الديمقراطي لإسبانيا..
وأخيرا؛ يمكن القول إن السعي الارتجالي نحو الانفصال ستكون له تبعات كبرى سواء على المستوى الداخلي من حيث إذكاء الحس الانفصالي في مناطق إسبانية أخرى، كما هو الشأن بالنسبة لإقليم الباسك الذي يحظى بحكم ذاتي، وخلخلة الاقتصاد الإسباني خصوصا وأن إقليم كاتالونيا يحتضن شركات واستثمارات صناعية كبرى، أو على المستوى الخارجي، كعامل محرّض ضد سيادة الدول التي تحتضن في داخلها مكونات اجتماعية وثقافية ودينية مختلفة.. بصورة قد تزجّ بالعديد منها في متاهات من العنف والصراع وعدم الاستقرار.