إلى أين المسير هل تعي خطواتك؟ بقلم: الباحثة النفسية الدكتورة ندى الجندي

إلى أين المسير هل تعي خطواتك؟ بقلم: الباحثة النفسية الدكتورة ندى الجندي

تحليل وآراء

الأحد، ١ أبريل ٢٠١٨

بدقة بالغة قد حُدد المسار ورسمت خطواته أي انحراف عن الخط المرسوم له قد يودي بحياته!

يجب أن يتخذ الجسد حالة التوازن التي تمكنه من أن يكمل المسير، فما إن يخطو خطوته الأولى بنجاح ويُجسد الحركة بثبات حتى يُقطع رأسه!

فأي صورة أراد أن يُعبر عنها هذا الفنان؟؟

إنه (رودان- Rodin) النحات الفرنسي الشهير والذي يعتبر من أهم رواد الفن الحديث، جسد آلاف المنحوتات التي تعتبر من أهم أعمال المدرسة الانطباعية في النحت، كان موضوعه الرئيسي الجسد واستطاع أن يُمثل الحركة ببراعة في منحوتاته، تمثاله الشهير (الرجل الذي يمشي) إنه بلا رأس ولا يدين ولكنه يمشي!

عندما نقول تمثال هذا يعني أنه شيء جامد فج ولكن لدى رؤيتنا للتمثال يتراءى لنا للوهلة الأولى بأنه يسير إلينا.. إنه يتحرك!

إنها لغة الجسد قد عبر عنها (ردوان) بشفافية فائقة وكأن الحجر ينطق.. إنه يسير!

ولكن ماذا يعني أن يسير الإنسان بلا رأس؟

أي دلالة أراد أن يُعبر عنها هذا الفنان؟

إنه يسير.. إلى أين؟.. يسير دون رأس!

آثار هذا التمثال الكثير من الجدل، يقول لاعب رياضي يمارس الجمباز ويقوم بالألعاب البهلوانية لدى رؤيته للتمثال، «لابد من أن رودان- Rodin كان يمارس الألعاب البهلوانية ويسير على الحبال فأصعب شيء عند المسير هو الخوف من الوقوع».

الخوف.. والذي ربما يكون أشد إيلاماً وتأثيراً على النفس من الوقوع بحد ذاته.... أي خيال جامح يمتلكه هذا النحات!؟

ولكن كيف يسير الإنسان مفصولاً رأسه عن جسده؟ ألا يعكس ذلك غياب الفكر؟؟ أليس في ذلك إشارة إلى حياة الإنسان عندما يعيش بشكل روتيني يردد كل يوم ذات الشيء بشكل آلي دون هدف واضح.. يعيش بعبثية قاتلة دون أي معنى لحياته ألا تكون حياته أشبه بالأموات فأي بصيرة يمتلك هذا النحات!

التمعن في تمثال (رودان) قد تتجلى لنا رؤية أعمق عندما يكون الإنسان مسلوب الفكر وبالتالي مسلوب الإرادة.. منقاداً لا حول له ولا قوة.. صورة من صور العبودية التي تستخدم فيها تقنية غسيل الدماغ الذي يهيمن على عالمنا اليوم ويوجهنا عبر استخدام شتى وسائل الإعلام وما تملكه من تقنيات علمية متطورة الهدف منها التأثير على الرأي العام ببث الفكر الذي يحقق مصالحها، عمل ممنهج مدروس علمياً يقوم به خبراء في مجال علم النفس والإعلام والسياسة وما تمليه عليهم المصالح الاقتصادية لذلك التصدي لهذه الحرب النفسية، لا يكون إلا باستخدام الأدوات ذاتها وعبر أحدث التقنيات العلمية والأهم هو حالة الوعي الفكري التي تجنبنا الوقوع في أي فخ والانجرار في حالة تبعية وراء أي فكر هدام يستهدف وجودنا.

ولكن كيف يتم التأثير على الإنسان وتسييره بحيث يصبح أداة لينة وكأنه رجل آلي ينفذ كل ما يُملى عليه؟

لتعود إلى منحوتة رودان (الرجل الذي يمشي) إنه بلا رأس.. لنتأمل خطوته، إنه يسير، نتساءل إلى أين المسير..؟ إنه يسير بخطى مطمئنة!https://dqjoaa.bn.files.1drv.com/y4mJzLCBvQjR9ZtkIQm7DgJSmmfzmKdEZGF_zw5GL2aWCdGJ5OI5CO9xpncodZ3T0UMqXA0UaJp7kROFC7goxhLuxCgym24wqEXRdc-KiclhPoJkaa5knxS4vbOA-g-K9i5oBDGYlyB6B-2sBhSPUrHKxztNDMN8mfUiA5mrQ_QmUGlQou9PW-d1xyUb6_mXOWtP_WuZ2zXNN34ziYsMYY8dw/L%27Homme%20qui%20marche.jpg?psid=1

وهنا يكمن السر الأول في حالة التأثير على الآخر، فعندما يسعى إنسان ما إلى فرض سيطرته على الآخر الخطوة الأولى يقوم بعملية جذب له ببث حالة من الراحة والاطمئنان النفسي، عملية خداع نفسي تعتمد على طرح شعارات كاذبة ولكنها براقة تحاكي هواجس الإنسان وتداعب عواطفه، لها قوة سحرية ينقاد لها الإنسان، ويشعر بالاطمئنان والأمثلة كثيرة من حولنا، على سبيل المثال لا يتوقف عن الترديد بأنه (يعمل من أجله ولا هدف له سوى تأمين راحته وتحقيق مصلحته).

شعارات تخلق جواً من الراحة النفسية، وما هي إلا كلمات، كلمات ليست كالكلمات لها وقع السحر في القلوب في معناها وطريقة إلقاءها.

كلمات يتم ترديدها بشكل مستمر ومنتظم مع الحفاظ على نبرة الصوت ذاتها، إنه الإيحاء وهو فن قائم بذاته حيث يعتبر مفتاح عملية التنويم المغناطيسي.

يعتمد الإيحاء على أسس نفسية في اختيار الكلمات وطريقة إلقائها، الهدف هو خلق صوراً يتأثر بها الإنسان ويتفاعل معها بالتدريج.. تحرك مُخيلته وبالتالي تخلق الإحساس المطلوب.

ولكن هل كان إنسان قابل للتأثر بالإيحاء؟ هل نستطيع التأثير على إنسان يمتلك فكراً حراً وبقدر كاف من الوعي؟

يختلف الناس بدرجة تأثرهم بالإيحاء، الأطفال هم الأكثر عرضة وكلما كان الإنسان منغلقاً فكرياً محدود الثقافة سُهل التأثير عليه بالإيحاء وخاصة ذوو الاتجاه الفكري المحدود من السهل توجيهه والتأثير عليه إذا تم العزف على أوتار منظومته الفكرية الجامدة.

نتساءل كيف يتم زرع فكر ما في عقل إنسان وحمله على تبنيه بحيث يصبح جزءاً من طريقة تفكيره؟

كيف نجعله في حالة قبول التأثير عليه؟ وهل نستطيع التأثير على إنسان قوي، ألا يقتضي تجريده من قوته بهدف السيطرة عليه على مبدأ إنهاك الفريسة قبل الانقضاض عليها!؟

عملية غسيل الدماغ تمر بعدة مراحل ولكن بالتدريج لا يشعر بها الإنسان وكأنه يحتسي كأساً من النبيذ الفاخر قد دُس فيه السم على جرعات كلما ارتوى منه ازداد عطشاً وطلب المزيد الهدف هو جعله عاجزاً فكرياً ونفسياً، فأولاً يتم عزله عن محيطه الاجتماعي وكل من يمده بالقوة والأمان ولا تنجح عملية غسيل الدماغ إلا إذا كان الذي يقوم به في مكانة أعلى من الضحية.

ثانياً يتم مراقبة المحيط الفكري حيث يتم منع كل فكر مغاير وضبط أي معلومات تناقض الفكر المطروح ويتم دفعه بشكل مستمر على تقييم مبادئه وسلوكه بشكل سلبي الهدف هو زعزعته، إنقاص درجة وعيه وحمله على تغيير رؤيته للعالم، ومن الأساليب المتبعة أيضاً إخضاعه إلى مواقف تضعف ثقته بنفسه وتهز كيانه ولتحقيق ذلك يتم استخدام أساليب الترغيب والترهيب فمثلاً الشخص الخائف يصبح أكثر ميلاً لقبول الإيحاء، ويجب ألا ننسى حالة التبعية المادية وأهميتها في التأثير على الآخر وجعله في حالة انقياد تام.

إذاً الهدف النهائي هو إضعاف محاكمته العقلية بحيث يصبح في حالة شلل فكري عاجز عن اتخاذ أي قرار فكيف له أن يسير وفق  نهج المقاومة وهو لا حول له ولا قوة، حالة هدم نفسي ثم يأتي البناء حيث يتم إعادة بناء منظومة فكرية جديدة الهدف منها تغيير سلوكه وتوجيهه و فق المسار المرسوم له.

إنه يسير دون أن يدرك إلى أين!

أشبه بتمثال رودان: (الرجل الذي يسير دون رأس) لقد تحول إلى رجل آلي.. لا يمتلك حق التعبير عن رأيه.. قد تم تجريده من إنسانيته.... فأي فكر يجسد هذا النحات عبر منحوتته وأي رسالة أدلى بها، ألا يجدر بنا العودة إلى عالم الفن علنا نجدُ فيه الخلاص من محنتنا هذه.

nadaaljendi@hotmail.fr