عندما يحاصر الملك الأسود.. ماذا سيبقى من رقعة شطرنج برينجسكي؟ .. بقلم: المحامي أحمد طارق قلعه جي

عندما يحاصر الملك الأسود.. ماذا سيبقى من رقعة شطرنج برينجسكي؟ .. بقلم: المحامي أحمد طارق قلعه جي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٥ أبريل ٢٠١٤

ربما كان السؤال الأبرز الذي تردد منذ اندلاع أزمة أوكرانيا واستقلال شبه جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية والمباحثات التي تجري اليوم نحو انضمام أوسيتيا وأبخازيا واستفتاء ألاسكا في الانفصال عن الولايات المتحدة والالتحاق بالاتحاد الروسي عن مدى ارتباط كل تلك التحولات بما يجري في سورية, بمعنى أكثر تحديداً هل كانت أوكرانيا رداً أوراسياً أمريكياً على انتصار سورية الذي أنتج نصراً روسياً في المنطقة التي تعتبر الجبهة الثانية للتصادم الروسي الأمريكي خارج المنطقة الأوراسية, أم أن ما جرى هو ارتدادات انتصار الحليفين روسيا وسورية نحو إعادة تشكيل أوراسيا خلافاً للخارطة التي تصورها زيبغينو بيريجنسكي الذي رسم وخاصة في كتابيه "خطة لعب" "ورقعة شطرنج" سيناريوهات مبكرة لما ستكون عليه خرائط العالم في المستقبل المنظور, على أساس نظريات الجيوبوليتيك العالمي التي سبقه إليها مفكرون من أمثال البريطاني ماكندر والأمريكي سبيكمان وقبلهما الألماني راتزل؟.
صحيح أن الجمع بين المجال الجيوبوليتيكي العالمي والطابع العالمي المزعوم للصراع العقائدي أعطى الحرب الباردة وما تلاها من انهيارات وإعادة تشكل في المنظومة العالمية التي كانت سائدة امتدادات خارج المنطقة الأوراسية الأمريكية والروسية أنتجت معها المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة جبهة دفاعية ثالثة هي الجبهة الجنوبية خاصة بعد إغراق الاتحاد السوفييتي في أفغانستان واستغلال الولايات المتحدة هذه الخطة لإعادة الانتشار والتمدد على حدود روسيا لبناء الحائط الدفاعي الأمني في المناطق الغربية والشرقية من أوروبا الآسيوية وآسيا الوسطى؛ فعمل الأمريكيون على تقديم إغراءات اقتصادية للدويلات الوليدة لاستقطابها، وبناء قواعد أمريكية فيها، وحثّ هذه الدول للانضمام إلى حلف الناتو في محاولة لتطويق الروس ومنع قيام اتحاد جديد يستفيد من المزايا الكثيرة للمنطقة الأوراسية.
وكان احتلال أفغانستان وفي نفس الوقت التمدد إلى منطقة الخليج العربي باحتلال العراق وربط دول الخليج بتحالفات استراتيجية بذريعة حماية أمن الخليج من خطر إيران التي حاولت الولايات المتحدة احتواءها. لكن الصراع الحقيقي ليس في هذه المنطقة, إنه في قلب العالم كما يسميه بريجنسكي, أي في أوراسيا وبالتالي فإن الولايات المتحدة تعطي أهمية أقل بكثير من ذلك إلى تواجدها في منطقة الشرق الأوسط, هذه المعادلة التي لم يفهمها حلفاء أمريكا في المنطقة وأهمهم المملكة العربية السعودية وقطر ودول الاعتدال العربي عموماً, إضافة إلى تركيا التي تعتبر جزءاً من مجالي الصراع الأوراسي– الأطلسي.
أوكرانيا هي الخاصرة الرخوة لروسيا والتي يجب استخدامها لمنع روسيا من النهوض مجدداً والسيطرة على (أوراسيا) فهي المربع المهم في رقعة الشطرنج وبدونها لا تعود روسيا إمبراطورية على هذه الرقعة وتضطر لأن تظل إمبراطورية آسيوية، هذا ما قاله بريجنسكي. لكنه بنى نظريته (الصحيحة) على أساس استدامة النفوذ الإمبراطوري الأمريكي بحركة ديناميكية تستغل السكون الروسي, وبالتالي فإنه وطالما روسيا محاصرة, يمكن للولايات المتحدة التحرك في جبهات أخرى جديدة مطمئنة إلى ظهرها المحمي أمنياً. لكن الذي حدث أن روسيا كانت تغرق الولايات المتحدة في أفغانستان بذات الأسلوب الذي استخدم ضدها, كما أغرقتها في العراق وكما أغرقتها في ليبيا وأخيراً في سورية إلى نقطة قريبة من الخط الأحمر التي لا يجوز تجاوزها, وبنت جسوراً استراتيجية مع الصين التي اختصرت كمونها الصامت لأن لحظة التحول الاستراتيجي قد حانت قبل موعدها, وفي نفس الوقت تحولت إيران من المنفعل المحتوى إلى الفاعل, بينما تداعى الدور التركي في المنطقة وأصبحت الأنظمة العربية الوكيلة عبئاً على واشنطن.
وهنا يمكن التساؤل, هل كان تحريك ملف أوكرانيا في هذا التوقيت خطأ استراتيجياً أمريكياً أم تفوقاً روسياً في اقتناص اللحظة لإطلاق استراتيجية الإمساك بنقاط الجيوبوليتيك من جديد, عن طريق إغراء أمريكا في تعويض خسارتها في سورية بحرب ضمن مجال كانت تعتبره رابحاً بالضرورة ؟
يُجمع المحللون الاستراتيجيون بأن سورية شكلت نقطة التحول التي لن تعيد الانقلاب في تشكل الخارطة إلى الوراء, كما لن تعيد التراجع الأمريكي على مستوى الجيوبوليتيك إلى مكانته السابقة, والأهم أنها نواة إعادة تشكل الأنظمة التقليدية في المنطقة أو إعادة تشكيل الخارطة السياسية في العالم. صمود سورية في مواجهة الدومينو أسقط الرهانات المرتفعة على عملية سلسلة وشكل موجة ارتدادية لم تكن في الحسبان, وهناك إجماع على أن انهيار المشروع الأمريكي – الأوروبي في أوكرانيا وإعادة تشكل الاتحاد الروسي توسعاً في أوراسيا كان بسبب صمود سورية التي تعتبر نموذجاً لاستراتيجية امتصاص الصدمة العدوانية وتفكيكها والقيام بهجوم مضاد على المستوى السياسي المستند إلى قوة عسكرية وحبكة خفيّة لم تستطع الأطراف المعادية فك رموزها. و فشل الغرب في سورية  سيرسل برسالة إلى أهداف أخرى على لائحة التدخل الغربي, لم يستطع العالم إجبار سورية على تقديم تنازلات أو التفاوض بشروط مذلّة يمكن معه القول بأن نتائج العدوان أو التدخل قد تحققت في حدها الأدنى, وبدل استرضائها للغرب ركزت سورية على عملية المواجهة والمناورة في الوقت الذي كانت توحي للغرب أنها ممكن أن تكون حلقة أخرى من حلقات التخطيط الاستراتيجي التقليدي للغرب, لكنه فوجئ بسقطات لم تكن في الحسبان. يقول الباحث والأكاديمي توني كارتلوتشي إن فشل الغرب في سورية هو مؤشر على قوة سورية من جهة وعلى انخفاض النفوذ الغربي الذي يواجه الإمبراطورية الأمريكية في مرحلة ما قبل الانهيار, لقد تعثر الغرب في سورية وهذا سيؤثر على سمعته ومكانته في العالم وهذا ما سيؤثر على مدى المقاومة التي ستبديها دول أخرى للمشروع الغربي, أي إن دومينو من نوع آخر انطلق من سورية يستهدف مراكز النفوذ الغربية في العالم أو في تلك الدول التي تواجه نفس سيناريو زعزعة الاستقرار أو الثورات الملونة. 
من هنا, ولأن الانسحاب الأمريكي من المنطقة قد بدأ فعلاً, يمكن تفسير خيبة الأمل التي مُني بها آل سعود بعد تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما في زيارته الأخيرة, أمريكا عاجزة عن إنقاذ السعودية وهي عاجزة عن مساعدة آل سعود في تحقيق انتصارات صغيرة يمكن من خلالها أن تحافظ على نظامها المتداعي في إطار إعادة تشكل النظم السياسية المقبل في المنطقة, وعلى ضوء هذا يمكن تفسير الصراع الخليجي الذي انطلق بعد تراجع القبضة الأمريكية المطبقة على الجميع, وعليه أيضاً يمكن بناء تفسير مقبول عن الاندفاعة التركية الأخيرة تجاه التخطيط لحرب مع سورية تحفظ لحكومة أردوغان مقعداً متقدماً في التسويات المقبلة. الجميع اليوم بات على قناعة بأن أمريكا التي خسرت في حربها على رقعتها الأساسية ألا وهي أوراسيا وبدأت في مرحلة التفكك الداخلي, غير قادرة على إنقاذ أحد في الرقع الاحتياطية في البعد الجيوسياسي.
ترى هل كان بريجنسكي سيكرر اليوم ما قاله دونالد بوشالا في كتابه تاريخ مستقبل العلاقات الدولية عن الاتحاد السوفييتي حول أن الإمبراطوريات لا تسقط من الخارج وإنما تتفكك وتنهار من الداخل عندما يتحدث عن الولايات المتحدة بعدما حوصر الملك الأسود في رقعته؟ ربما.