حسني البرازي بين رئاسة الحكومة والصحافة
ثقافة
السبت، ٩ يوليو ٢٠١١
في زمن ما.. كان رئيس الحكومة أو رئيس البرلمان إنساناً عادياً.. يأكل ويشرب مثلنا تماماً، يتمشى في الطرقات يخرج من الفندق أو المنزل وليس هنالك من حرج إن خرج سيراً على الأقدام إلى مبنى الحكومة أو البرلمان دون مرافقة أي حارس (مرافق) ولا شرطي ولا موكب، ولا تقطع له الطرقات وتفتح إشارات المرور الحمراء على مصراعيها، ولا تزأر له السيارات بصفاراتها الحادة معلنة عن مروره.. كان يتمشى سيراً على الأقدام ليلقي البسمة والتحية على المارة ويتكلم معهم ويحمل همومهم وآمالهم إلى مجلس النواب, أو إلى مجلس الوزراء ولم يكن يرى من الحرج أن يصافح المارة ويسألهم عن أحوالهم...؟ وحين ينتهي تكليفه من سدة الحكومة أو البرلمان يعود إلى مكتبه أو جريدته، يعود إلى عمله السابق ليمارس عمله الطبيعي، وحياته الطبيعية، وليس من الضرورة أن يصبح رجل أعمال أو صاحب شركات.. هذه هي حال رجالات بلدي من فارس الخوري إلى هاشم الأتاسي وخالد العظم.. كان الوزير والنائب ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان و, كل منهم له عمله ووظيفته في المجتمع بعد أن (ينزل من على الكرسي) يخرج من الحياة السياسية، ولكن الآن اختلف الحال.. ولله في خلقه شؤون، ومن هؤلاء الرجال الأشداء كان حسني البرازي.
من هو حسني البرازي:
يقول السياسي والصحفي حسني البرازي عن نفسه "في وثيقة موجودة في الجامعة الأميركيّة في بيروت تعود لعام 1969": (ولدت في حماة، سورية سنة 1895، وقد أتى أجدادي إلى حماة منذ 150 سنة، وهم من عائلة كرديّة كبيرة تتألّف من حوالي 30 ألف نسمة، مركزها في قسم من الأراضي التّركيّة، كطرابلس كعين العرب وأورفة وسروف وهندراباس. ولا يزال إلى اليوم من القبيلة البرازيّة أناس رحّل يسكنون الخيام ويرعون الإبل والأغنام. غير أنه يوجد أيضاً أناس منهم متحضّرون يسكنون في بلدة عين العرب وطرابلس وغيرها من المناطق التّركيّة.. والعائلة ببدوها وحضرها على اتّصال وثيق بعضها ببعض. وقد أتى إلى هنا اثنان أو ثلاثة من المناطق الكرديّة في الشّمال.. أمّا جدّ العائلة هنا فيدعى محمد عرب باكي، وقد كان له عشرة بنين وأربع عشرة بنتاً من أمّهات أربع.. فالرّجال في السّابق كانوا يتزوّجون غير واحدة.. لي ثلاثة إخوة وثلاث أخوات, مات منهم أخوان وأخت. وأنا دخلت المدرسة وأكملت دراستي الابتدائيّة في ثلاث سنوات ثمّ دخلت "الرّشيديّة" حيث بقيت أربع سنوات، وكان المعلّمون كلّهم من الأتراك، وإن وُجد معلّم عربي فيما بينهم فقد كان يعلّم العربي بالتّركيّة، لذلك كانت لغتي العربيّة ضعيفة، بعكس لغتي التّركيّة، وقد درست العربية فيما بعد على أساتذة خصوصيّين. ثمّ أكملت دراستي الإعداديّة في إسطنبول وحلب.. ففي إسطنبول كنت طالباً داخلياً في المدرسة الإعداديّة ثمّ دخلت معهد الحقوق حيث بقيت أربع سنوات).
ساهم البرازي في تأسيس حزب العربية الفتاة، وحزب العهد السوري والعراقي وكذلك حزب الاستقلال والكتلة الوطنية،عاش بدمشق وسكن فيها (في شارع أبو رمانة) تقلد العديد من المناصب فكان متصرف (محافظ) حمص في عهد الملك فيصل، ثم شغل محافظ الإسكندرون ومُفتشية عدلية سورية، وأميناً عاماً في القصر الجمهوري زمن رئاسة حسني الزعيم، ومحافظ حلب عام 1949م، ثم نائب الحاكم العسكري، اتهم خلال حياته السياسية بالعديد من القضايا والموضوعات وبالتآمر مع جهات خارجية.. أصدر مع نذير فنصة بتاريخ 18-7-1954م جريدة الناس وهي يومية سياسية مستقلة.. كما كان نائباً في مجلس النواب في دورتي عامي 1928 (ساهم في وضع الدستور السوري آنذاك) وعام 1949، وكان وزيراً للداخلية عام 1926، ووزيراً للمعارف عام 1934، ورئيساً لمجلس الوزراء وزيراً للداخلية عام 1942 زمن الشيخ تاج الدين الحسني، وفي عام 1955 تنحى عن السياسة وتنقل ما بين لبنان وتركيا.
جريدة الناس:
في عام 1954 أصدر حسني البرازي مع نذير فنصة جريدة " الناس" بدمشق، وصدر العدد الأول منها في 18/7/1954، وكان مكتب إدارتها في شارع البرازيل، واستمرت الجريدة في الصدور إلى عام 1957، وكان البرازي رئيساً لتحريرها وهي جريدة يومية سياسية مستقلة.
استقطبت جريدة " الناس" عدداً من السياسيين السوريين فكتب فيها الوزير والنائب فيض الأتاسي والأديب الكبير بدوي الجبل، وكان للبرازي مقال سياسي يومي ينشر في الجريدة، كانت مقالاته تتمتع بالجرأة السياسية لما يمتلكه من حس وطني وللحرية الإعلامية التي كانت تسود البلاد زمن الرئيس هاشم الأتاسي.. وعن هذه الفترة الزمنية في حياة الجريدة يقول البرازي: (لم يعترضني أحد بادئ الأمر، ولكنّهم ما لبثوا بعد مدة أن ضاقوا ذرعاً بالجريدة وصاحبها، فأخذوا يضايقون المحرّرين ويعتقلونهم ويلاحقونهم في بيوتهم) واستمرت المضايقات لجريدة " الناس" ومحرريها إلى أن داهم رجال عبد الحميد السراج في أحد الأيام من عام 1954 م مكاتب الجريدة بدمشق شارع البرازيل، واعتقلوا عدداً من محرريها وقاموا بالاعتداء عليهم وتكسير محتويات المكاتب، حصل ذلك أثناء غياب البرازي خارج سورية واتهم عبد الحميد السراج البرازي بأنه يعدّ لانقلاب عسكري وأصدر أمراً بملاحقته، فأقام (البرازي) في بيروت، ولم يعد يستطيع الحضور إلى سورية،، واستمرت الجريدة بالصدور بدمشق، واستمر يكتب فيها البرازي إلى عام 1957 حيث توقفت بسبب حكم الإعدام الذي صدر بحقه من المحكمة العسكرية بدمشق، وانتهى المطاف بالبرازي في بيروت ملاحقاً من القضاء العسكري بدمشق إلى منتصف الستينات من القرن الماضي حيث صدر العفو عنه بسبب التقدم في السنّ.
ويروي حسني البرازي قصة يجب التوقف عندها مطولاً واستخلاص المغزى منها حصلت معه مع اريك جونسون الممثل الشخصي للرئيس الأميركي أيزنهاور بعد كتابته لإحدى مقالاته في جريدة " الناس" فيقول: (كان السيد اريك جونسون الممثل الشخصي للرئيس الأميركي أيزنهاور، وهو من الشخصيات الأميركية المعروفة موزون وراكز، وقد أتى إلى لبنان بخصوص هذا الموضوع "قصد موضوع تحويل مجرى نهر الأردن" ، وعلمت أنه يفاوض الحكومة السورية أيضاً. وعندما علمت أن السوريين سيرجعون إلى سلبيتهم ويضيّعون الفرصة على البلاد كتبت مقالاً في جريدة الناس أيضاً مبيّناً رأيي بالموضوع ووقّعتها باسمي ودعوت إلى وجوب قبول المشروع، وخلاصته أن الحكومة الأميركية تؤمّن مياه الأردن بأموال من الكيان الصهيوني وذلك بإعطاء الثلثين منها للعرب والثلث الباقي له، أما العرب فلا يتكلّفون شيئاً. وقلت إن قبول هذا المشروع أفضل من أن تؤخذ المياه دون أن يستفاد منها. ولما قرأ اريك جونسون مقالي أتى لزيارتي وقال لي: "إنّي أقدّر المجهود الذي بذلته. وقد أُخبرت بما تكلّمت به في المجلس النيابي. وتقديراً مني لشجاعتك ومعرفتك فقد أتيت لزيارتك لأوضح لك بعض النقاط التي تتعلّق بهذا الموضوع أكثر مما تعرف. وأوضح لي مفصّلاً فائدة هذا المشروع للبنان وسورية وللبلاد العربية أجمع. ثمّ قال: "إن لم يقبلوا بالمشروع فسيأتي اليوم الذي تنبأت أنت عنه، فتأخذه إسرائيل دون مقابل ودون إعطاء شيء لسورية. لهذا السبب قصدت زيارتك لأخبرك بذلك". وأذكر أنني كتبت مقالاً آخر في الجريدة ذاكراً مقابلة جونسون لي وتحذيره بألاّ نُقدم على هذه الجريمة وإنه يجب أن نقبل بالمشروع فنأخذ قسماً من مياه المشروع ويأخذ الكيان الصهيوني القسم الآخر، بدلاً من أن يأخذوه هم كلّه عنوة وغصباً ونحن غير قادرين على منعهم من ذلك).
لقد تعرض البرازي في مقالاته بجريدة " الناس" للعديد من القضايا السياسية التي كانت تعصف بالبلاد آنذاك وخاصة زمن الانقلابات العسكرية، واتهم السياسيين آنذاك بأنهم دون شجاعة وقناعة وخاصة زعماء حزبي الشعب والوطني فيقول: (لقد كان اقتناعهم في مجتمعاتهم الخاصة غير اقتناعهم في الشارع، فبدلاً من أن يسيروا أمام الشارع وأمام الغوغاء بجرأة مظهرين مبادئهم في سبيل المصلحة العامة ويقودوا الشارع، على عكس ذلك، كانوا يسيرون وراء الشارع الجاهل.. لقد كنت دائماً أسعى لأقرّب ما بين الحزبين، وكنت بالأصل من مؤسسي الكتلة الوطنية، ولكنّني عندما رأيت المواقف السّلبية تتكرّر، صعب عليّ السير في اقتناعاتهم الخالية من الشجاعة والجرأة، وذلك حرصاً مني على مصلحة البلاد وعلى ما أنا مقتنع به) ويتابع البرازي بالقول: (أخذت أعبّر عن آرائي على صفحة خاصة من جريدة الناس ناصحاً لهم بكل إخلاص أن يسلكوا الطريق القويم وداعياً الحزب الوطني للانضمام إلى حزب الشعب).
لم يتخلَّ السياسي حسني البرازي عن مهنة الصحافة ولم يتنكر لها ولم يفارقه قلمه لحظة واحدة طيلة حياته السياسية وبعد اعتزال السياسة عاد إلى حضن معشوقتة (الصحافة) واستمر معها إلى أن طالتها إجراءات الإغلاق.
يتبع
شمس الدين العجلاني - أثينا
alajlani.shams@hotmail.com