المقدم غسان جديد في مهبّ الريح .. تفاصيل – خفايا – آراء (1 من 6)
ثقافة
السبت، ٢٣ مارس ٢٠١٣
شمس الدين العجلاني
alajlani.shams@hotmail.com
ضابط مغامر طائش، قاتل وقتيل، بطل وشهيد، ضابط فارس قارع الانتداب الفرنسي واستبسل في حرب عام 1948، وحمل على كتفيه همّ الوطن وهو من خيرة الضباط الذين طالتهم يد الغدر في يوم ما ومكان ما، وهو مَن أصدرت المحكمة العسكرية الاستثنائية برئاسة القاضي المدني بدر الدين علوش، قرارها بإعدامه يوم 13كانون الأول عام1955!؟ بدعوى اغتيال العقيد عدنان المالكي، وإنَّ تقاطع المصالح بين الاستخبارات الأميركية والاستخبارات المصرية.. وبعض الزعامات السياسية والعسكرية السورية آنذاك أدت إلى صدور هذا القرار..
بهذه التناقضات كان ولم يزل الحديث عن المقدم غسـان جديد.. غسان جديد من القادة العسكريين والحزبيين الذين أدخلوا عالم النسيان قسراً، ولم توضع النقاط على الحروف في سيرته الذاتية، مثله كمثل الضباط الآخرين الذين تعرضوا للاغتيال خلال فترة نهاية الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، كسامي الحناوي، والعقيد محمد ناصر، والمقدم إبراهيم الحسيني..
الحديث عن غسان جديد يطول ويدخل في متاهات كثيرة، ولا يمكن بمقالة أو أكثر الحديث عنه وتأريخ سيرته الذاتية الحافلة، برغم أن الله تعالى لم يمنحه العمر المديد فهو اغتيل ولم يتجاوز من العمر السابعة والثلاثين! يجب أن يُحكـى الكثيـر عنه وأن تـؤرّخ سـيرته الذاتية الغنيـة بالغموض ويماط اللثام عما خفي وكان يدار وراء الكواليس وتحت الطاولة..
(الأمم المتقدمة تكرم قادتها الراحلين بتأمين حضور دائم لهم.. ولكن أمتنا المتخلفة، لا تكتفي بأن تلقي ظلالاً كثيفة على قادتنا بعد موتهم أو استشهادهم.. بل هي تصرّ على تشويه سيرتهم وتقزيم بطولاتهم وإلصاق تهمة الخيانة بهم) – (جان داية).
نحاول ها هنا الخوض في غمار حياة واغتيال غسان جديد المقدم في الجيش السوري والقائد في الحزب القومي السوري، من خلال ما وقع بين أيدينا من وثائق ومعلومات وصور ومن خلال الذاكرة الشعبية لبعض أقاربه، وكما سبق وذكرنا قد نصيب أو نخطئ، ولكن همّنا في الأول والآخر تسليط الضوء على جزء يسير من تاريخنا القابع في الخانة المعتمة، لعل هنالك من يبحث في الوثائق القابعة في دروج الآخرين ويميط اللثام عن تاريخ بلدي، عن تاريخ رجالات بلدي ويعطي كل ذي حق حقه..
غسان جديد:
رجل مربوع القامة، وسيم المطلع، قوي الشكيمة، صاحب بنية جبلية قوية، ذو كفاءة عسكرية، وحضور طاغ، استحوذ على إعجاب واحترام أكثر الطلاب المتخرجين من الكلية العسكرية التي كانت بإمرته...
من ألمع ضباط الجيش العربي السوري ومن قادة الحزب القومي السوري، ولد في أحد أيام عام 1920م (وذكرت بعض المصادر أنه مواليد 1918م) في قرية دوير بعبدة. قضاء جبلة. محافظة اللاذقية، وينتمي إلى أسرة متوسطة الحال، تخرج من الكلية العسكرية في حمص، خدم في صفوف الجيش الفرنسي ثم الجيش السوري، وتولى التدريب في الكلية العسكرية بحمص، في العام 1948 ترك مهمة التدريب والتحق بجيش الإنقاذ في فلسطين وتسلم قيادة آمر فوج العلويين في جيش الإنقاذ، فسجل الكثير من البطولات في المعارك التي خاضها ضد العدو الإسرائيلي، في العام 1954 عُيّن عميداً للدفاع في الحزب السوري القومي الاجتماعي، في أواخر عام 1954 سُرّح من الجيش السوري تعسفاً مع عدد من الضباط، منهم المقدم حسين الحكيم، والمقدم أنور الأمير تامر، والمقدم سليمان نصر، وفي عام 1957، اتُهم بقضية اغتيال العقيد عدنان المالكي وصدر بحقه حكم غيابي بالإعدام، هرب غسان جديد على إثر ذلك مع زوجته وأولاده إلى بيروت وأقام بها، اغتيل في بيروت على يد المكتب الثاني السوري "المخابرات" والذي كان على رأسه عبد الحميد السراج، وذلك في 19 شباط من عام 1957 ، ولم يبلغ من العمر السابعة والثلاثين، ودفن فيها في مقبرة «الباشورة» ولم يزل قبره هناك إلى الآن.
غسان جديد هو العقل العسكري المدبر للحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا يمكن لأي ضابط أو عنصر في الحزب أن يحل محل هذا الألمعي المميز في كل شيء. كان مبدعاً في التخطيط، جريئاً مقداماً في المواقف كلها، فإذا غضب أو كره فهو كالعاصفة يدمر أو يحرق خصوصاً فيما يتعارض مع مسيرة الحزب، أما إذا أحب ووثق فهو الليّن الوديع الكريم - على حد قول صديقه المحبب المقدم محمد معروف".
غسان جديد له من الأشقاء ثلاثة هم (فؤاد وصلاح وصديق) وفؤاد كان وكيل ضابط في الجيش السوري، وهو قومي سوري، قاتل العدو الإسرائيلي تحت إمرة أديب الشيشكلي في فلسطين، أدين واعتقل في قضية اغتيال عدنان المالكي وسُجن قرابة عشر سنين، وأخرج من السجن كما يقول العماد مصطفى طلاس بناءً على توسطه مع رئيس مجلس الثورة الفريق لؤي الأتاسي آنذاك، بواسطة عفو خاص، بينما يذكر غسان الإمام في إحدى مقالاته في صحيفة الشرق الأوسط أن الذي أفرج عن فؤاد: "كان شقيقه اللواء صلاح جديد الذي أصبح رجل سورية والبعث القوي في الستينات. "واللواء صلاح جديد (1926- 19 أب 1993م)، قائد عسكري وسياسي وأحد قياديي حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية، وكان له دور كبير في رسم السياسة الداخلية والخارجية السورية خلال الفترة من (1966-1970)، قاد انقلاب 23 شباط عام 1966م الذي عزل أمين الحافظ من رئاسة الجمهورية السورية، وأصبح نور الدين الأتاسي رئيساً للدولة واستلم صلاح جديد حينها الأمين العام المساعد لحزب البعث. اعتقل في عام 1970 نتيجة صراعات سياسية، وبقي سجيناً في سجن المزة قرابة 23 عاماً، وتوفي في السجن يوم 19 آب عام 1993، ودفن في قريته، قرية دوير بعبدة في اليوم التالي وقبره معروف ويزار.
أما صديق جديد فلم يعرف عنه نشاط سياسي سوى أنه كان من مجاهدي فلسطين، ولغسان جديد من الشقيقات خمس، والده محمد عزت جديد كان مديراً لناحية في منطقة تلكلخ التابعة لمحافظة حمص.
كان غسان جديد إضافة لكونه قائداً سياسياً وعسكرياً، يمارس مهمة الكتابة، وكتب مجموعة مقالات في جريدة «البناء» الدمشقية، بتوقيع مستعار فتارة بتوقيع «صديق المحمود» وتارة بتوقيع «شاب»، وكتابات غسان جديد لفتت نظر العديد من المثقفين حتى أن أحدهم قال إن كتاباته تكشف فيه: (كاتباً محترفاً، وهو الذي يعرف عنه احترافه للحياة العسكرية التي تقضي امتشاق السيف دون القلم، بصورة عامة. ولكن بعض القادة العسكريين في التاريخ قد أتقنوا القتال بالسيف والقلم معاً. وغسان جديد هو أحد هؤلاء). وغسان كان يتقن إضافة للغته الأم العربية اللغتين الفرنسية والإنكليزية.
رفع أول علم سوري:
لا يستطيع أحد نكران أن غسان جديد كان ضابطاً عسكرياً على قدر كبير من الوطنية والإخلاص لبلده وأمته، وكان رجلاً صلباً في مقارعة الانتداب الفرنسي برغم صغر سنه، ومن المآثر التي غُيبت عنه إنه أول من رفع العلم الوطني في ثكنة عسكرية في ظل الانتداب الفرنسي. ويروى عنه ذلك: (في العام 1945، كانت سورية في ثورة وغليان ومظاهرات واضطرابات وتحضيرات للاستقبال التام لإخراج الفرنسيين من الشام ولبنان.. تواردت الأخبار إلى اللاذقية بأن الثوار، على رأسهم ضابط من آل جديد من قرية دوير بعبدة قد احتلوا الثكنة العسكرية الفرنسية في تلكلخ ورفعوا العلم السوري عليها.. استقبلت اللاذقية هذا الحدث بالأهازيج والأفراح والتهاليل، وأخذ الشعب في الطرقات يصافح بعضه بعضاً ابتهاجاً بهذا النصر المؤزر، لأنه كان أول علم سوري يرفع على ثكنة عسكرية فرنسية في بلاد الشام ولبنان.).
ويروي علي المير ملحم تفاصيل هذه الحادثة فيقول: (في العام 1956 عندما كان الرفيق غسان جديد عميداً للدفاع في الحزب السوري القومي الاجتماعي وكنت ناموساً لعمدة الدفاع (أي أمين سرّ عمدة الدفاع) استفسرت منه عن هذا الموضوع الذي سمعته في اللاذقية عام 1945، فحدثني بما يلي: عندما كانت فرنسا منتدبة على الشام ولبنان، كان برتبة ضابط في الجيش الفرنسي، ويخدم في منطقة عسكرية في طرابلس، وفي هذه الأثناء تعلم قيادة السيارات، وكانت الشام في ذاك الوقت في ثورة وغليان...
قال: اتفقت مع القوميين وبعض الوجهاء النافذين من آل الدندشي في تلكلخ، وتعهدت بتقديم السلاح الذي يمكن توفره بغية احتلال الثكنة العسكرية الفرنسية في تلكلخ، وبالتواطؤ مع بعض العسكريين في داخلها.
وقال: خفية أملأت سيارة شاحنة بقطع من السلاح والذخائر المتوفرة في الثكنة الفرنسية بصفتي ضابطاً فيها، واتجهت بحمولة السيارة من طرابلس إلى تلكلخ وأنا أقود السيارة.
شعر الضباط الفرنسيون بذلك وطاردوني، وأخذوا يطلقون النار على السيارة، وتابعت المسير أقود السيارة بسرعة جنونية حتى وصلت إلى تلكلخ.
كان يروي الحادثة في مجال بداية تعلمه قيادة السيارات، حيث قال لم أبالِ بأزيز الرصاص والمطاردة العنيدة التي تتبعني، لأني كنت مسروراً وفرحاً، حيث شعرت بأنني انتقلت من سائق غر إلى سائق ماهر، وهذا كل ما كان يشغلني ويملأ شغاف قلبي. ثم أردف قائلاً، وصلت إلى تلكلخ حيث كان تجمع القوميين والمواطنين الأبطال بانتظاري فوزعت عليهم السلاح ونظمتهم ووزعت المهام العسكرية على كل منهم، وكنا على اتفاق مع بعض العسكريين الوطنيين في داخل الثكنة؛ ومن ثم هاجمنا الثكنة العسكرية الفرنسية وتم الاستيلاء عليها بخسائر طفيفة، ورفعت بيدي العلم السوري على تلك الثكنة، وكان أول علم سوري وطني يرفع في ثكنة فرنسية في كل من سورية ولبنان).
يتبع