تواصل الأجيال مع التاريخ

تواصل الأجيال مع التاريخ

الأزمنة

الأحد، ٢٣ أغسطس ٢٠١٥

زهير جبور
طرأت عدة تسميات مختلفة على شوارع وأزقة ومواقع كانت الذاكرة الشعبية قد احتفظت بالاسم الذي أطلق عليها بسبب أحداث شهدتها، واللافت أنها بقيت متداولة بين الناس الذين لا يعرفون عنها شيئاً سوى الاسم، وذلك لأن الجهات المحلية التي أدارت شؤون المدن لم تراعِ هذه الحالات، إما لجهل منها أو لعدم تقديرها لرمزية المكان المعني تاريخياً، لتظل الذاكرة أكثر تفاعلاً مع الأمكنة، ولترصد الخارطة مواقع بأسمائها المتنوعة، وفي اللاذقية كانوا قلائل أولئك الذين أرّخوا ووضعوا الإرث في مكانه وهو ما مكن من عدم طمسه وأرشد المهتمين لاحقاً إلى تفاصيله، وعمل في الميدان الأوغاريتي الباحث المرحوم جبرائيل سعادة ويعود الفضل له في الحفاظ على هذا المكتشف منذ عام 1929 من القرن الماضي، مع مجموعة المتعاونين المهتمين راؤل فيتالي. زياد عجان. محمود عجان. هاشم عثمان. والمفكر الباحث الذي وافته المنية في الشهر الماضي وديع بشور، الرجل الذي خدم التاريخ وقدم للمكتبة العربية البحوث المهمة، وسلط الضوء على جوانب كانت مجهولة، متعمقاً في بحوثه التي لقيت سمعة عالمية، وفي رحيله خسر الوطن باحثاً ومفكراً وطبيباً قدّم لأبناء شعبه، وكان يعمل بصمت ولا يميل إلى أضواء الإعلام، مكتفياً بما نشره من كتب مهمة جداً، كان من الأجدر أن تؤخذ بأهمية خاصة، وتدرس وتتبناها الجامعات وتتواصل معها الأجيال، وعمل ضمن قناعاته الفكرية التي حملها، وعلمت من مصادر مديرية الثقافة أنهم يجهزون الآن لإقامة حفل تأبيني يشارك به مجموعة من الباحثين وأصدقاء الفقيد الذين عرفوه عن قرب، مع ملاحظة كنا قد كررناها كثيراً وطالبنا بها.. وهي ضرورة الانتباه الرسمي للمبدعين الذين خدموا الوطن وألا يغيب تاريخ نضالهم، ومع رحيلهم يطوى زمنهم ولا يذكرون من بعد، وفي هذا التقصير سوء ائتمان لتاريخ الأفراد الذي لا ينفصل عن الجماعة، ويساهم في تشكيله، ونجزم هنا أنه لولا الراحل جبرائيل سعادة الذي عاصر أوغاريت لحظة اكتشافها لكان ذكرها قد غاب، وخاصة أن الاحتلال الفرنسي وقتذاك وضع يده على المكتشف، وتمكن من تهريب لقى وأثريات قيمة وهي معروضة في المتاحف الفرنسية، ولولا تصدي سعادة لهذا النهب المبرمج في وقته لبقيت أوغاريت الآن مجرد حجارة دون أبجدية وموسيقا وقوانين وملاحم وشعر، رجال عظماء هؤلاء الذين واجهوا وأسسوا وأبرزوا الحقائق وبتروا ادعاءات الزيف التي أطلقها أصحاب المصلحة الاستعمارية وعلى رأسهم الصهيونية وهي تجير تاريخها وتسخره لصهيونيتها، وما بذلوه في أنهم تمكنوا من تطويق الادعاء والتلاعب على التاريخ جبرائيل سعادة. وديع بشور. هاشم عثمان. والجيل الذي حل بعدهم، د. بسام جاموس. د. جمال حيدر. ومجموعة أخرى تعمل حالياً في قسم التاريخ بجامعة تشرين وكان من الممكن أن تساهم الجامعة في إنشاء معهد خاص بالعلوم الأوغاريتية، وهو السعي الذي جدّ به الجيل السابق ومن حل مكانه لكن ثمة صعوبات فنية وإدارية ومهنية واقتصادية حالت دون ذلك، وجاءت ظروف البلاد المؤسفة المحزنة لتوقف المشاريع بكاملها، وكذلك عمليات التنقيب وغيرها، ونجد أنه من المثمر أن تصب الجهود القادمة في خلق حالة تواصل بين الأجيال وأمكنة تبدلت عليها الأسماء، لكنها احتفظت شعبياً بقيمة التاريخ الذي حملته، وننوه إلى أن أبناء اللاذقية جميعهم يرددون اليوم اسم القديسة (مارتقلا) وهناك حي بالكامل محاذياً لكورنيش البحر باسمها، وكذلك أكثر من كنيسة ممتدة على طول الساحل حتى إنطاكية ومعلولا وصيدنايا، وحين سألت مجموعة فتيات من الحي عنها كانت إجاباتهم أنها حضرت إلى اللاذقية وعاشت فيها من دون معرفة أي شيء آخر سوى أنها قديسة، وهذا يفسر انفصال الشباب عن تاريخهم بسبب الإهمال المتعمد، وعدم تحفيز الفضول المعرفي الذي انعدم بسبب خيبات ألمت بهم ومصدرها التاريخ، والموضوع يتطلب بحثاً مختصاً يرتبط بالواقع الثقافي والتربوي والاجتماعي واهتمام الشباب الذين تواصلوا مع كل تسليات (الإنترنت) المتوافرة ولم يبد أي اهتمام بالعودة إلى أسماء مواقع يسكنون ويعيشون فيها وهذا معيب في الواقع.
•    أماكن منسية
لا يختلف الرأي في وجود أماكن يعود عمرها إلى أكثر من ألفي عام، ولم تذكر في البحوث، ومنها في اللاذقية عمود السندكس والفاروس، والكنيسة المعلقة، وقد وردت في بعض البحوث المتفرقة من دون تفاصيل، واللافت أن أمكنتها موجودة، ولنتعرف على القديسة مارتقلا، تطلب الأمر العودة إلى ملفات إنطاكية القديمة، وكذلك جبال القلمون، والقديسة تلميذة بولس الرسول، وأولى شهيدات المسيحية، وأكد الراحل جبرائيل سعادة أنها كانت من الجميلات جداً واعتنقت المسيحية، وألقيت في النار من قبل الحاكم، فتقدمت بشجاعة ورمت نفسها وفجأة انهمر المطر في المكان وانطفأت النار، ومع بولس الرسول وصلت إلى إنطاكية وهناك حاول أحد المتنفذين اغتصابها، فقاومت وحكم أن ترمى عارية للوحوش، وأطلقوا عليها لبوة جائعة حين اقتربت منها ركعت عند قدميها ولم تمسها، ومن ثم ربطوها إلى زوج من الثيران وأطلقوها وأفلت الثيران من دون أن تصاب، وألقوها في بؤرة ملأى بالثعابين ولم تمسها، فأطلقوا أنها ساحرة، مشعوذة، وأجابت: أنا تقلا أمة الله وخادمته وهو الذي أنقذني، ومن بعدها تركت إنطاكية إلى اللاذقية وأقامت فيها بمكان الحي القائم حالياً وفيه اكتشفت كنيسة المارتقلا التي كانت مطمورة بسبب حفريات ردمتها، لتغادر إلى القلمون، أما موقع (السندلكس) كما يطلق عليه حالياً فهو يعود للقديس (سانت إليكسي) الذي ولد في روما، وأمه (أغلانيس) من سلالة الملوك الرومان، وتخلى القديس عن الجاه والسلطة وحضر عبر سفينة إلى اللاذقية وعاش في المكان وهو في طرف المدينة نقطة نهاية شارع بغداد، وكانت توجد به عين ماء يدخل إليها عبر درجات، وتتجمع الماء في عمق متر ونصف المتر، ويروى أنها كانت شافية من الأمراض، وشوهد في المكان تابوت من رخام أبيض هو الأول من نوعه في سورية، كما يذكر الباحث هاشم عثمان، وله وصف يطول شرحه لكن المغارة أزيلت عندما تم إنشاء الخط الحديدي الواصل إلى محافظة حلب وهذا في سبعينيات القرن الماضي، ولم ترصد الدراسة أهمية المكان وتاريخه فدمرته، كما حدث مع الكثير من الأماكن التي التهمها الحفر التوسعي، والمشاريع المختلفة، تحتفظ الذاكرة الشعبية بالأسماء القديمة وهي لم تتعامل مع التسميات التي دخلت لاحقاً، وكانت الجهات المسؤولة تسمح بالهدم وفي الثمانينات من القرن الماضي وقف المهتمون بالتاريخ والأماكن ضد هذه العشوائية مجتمعين على التراخيص التي تجرد المدينة من عراقتها، ووصل صوتهم إلى أعلة سلطة في البلاد بعد أن دمر مشروع توسع الميناء الذاكرة اللاذقانية وأزيل الكورنيش بما فيه من تاريخ، وشكلت لجنة حماية المدينة القديمة ليتراجع منح التراخيص وتستمر الاعتداءات بلا توقف إلى اليوم، والأحداث التي جرت في البلاد بكل أسف وأسى عرضت الكثير من المواقع للدمار والنهب، كما حصل في مصيف كسب، والآن نجد أنه من الضرورة أن تسارع الجهات المحلية لتشكيل ورشة تاريخية تضم الخبراء وأصحاب الاختصاص وتبدأ بصياغة تاريخ اللاذقية وما فيه استكمالاً لما قدمه الباحثون والمؤرخون الذين بذلوا جهودهم الفردية والعمل بحاجة للتنظيم والتخطيط، والأهم هو تواصل الأجيال مع تاريخها السوري، خاصة في المناطق التي دخلتها العصابات ودمرت فيها، وعلى رأسها مدينة تدمر، وجعل تاريخها متداولاً بين الأجيال وإن لم نفعل ذلك فسوف تبقى صورة المستقبل الذي ننشده غير متكاملة.