خصوصية الأمكنة ويد العبث

خصوصية الأمكنة ويد العبث

الأزمنة

الأحد، ٦ مارس ٢٠١٦

زهير جبور
تميز الموقع بغاباته الصنوبرية, وبالمساحات الزراعية التي خصصت لإجراء التجارب هو معهد الغابات العربي الذي أقيم بأوائل خمسينات القرن الماضي. بهندسة معمارية تنسجم مع محيطه والأغراض الذي أنشئ من أجلها. يقع في شمال شرق اللاذقية وعلى بعد 4 كم من مركز المدينة. حينها اعتبر بعيداً عن تمركز السكان. ومن حوله بساتين الزيتون, والأشجار والزراعات الموسمية التي كان ينتجها. عام 2005 كنت بمدينة سوسه التونسية حين صادفت الرجل الذي قابلني مرحباً بحب واندفاع, وعلمت أنه يحتفظ بذكرى طيبة عن اللاذقية. وقد تخرج في المعهد الذي درس فيه بسبعينيات القرن الماضي. وكان حينها يستقبل طلاباً من مصر. تونس. الجزائر. اليمن. وبعد تخرجه تابع وحصل على شهادة الدكتوراه الزراعية مستعرضاً الذكريات الجميلة جداً التي حملها, واحتفظ بها. وكانوا مجموعة من الطلاب العرب الذين خدموا بلدانهم. سألني عن المعهد فصمت قليلاً, لأجيبه أنه ما زال، مكتفياً بذلك ولم أقل إن المساحة التي خزنتها ذاكرته تحولت إلى فوضى من الاسمنت. الحكومات المتعاقبة حافظت على المعهد ومن حوله أشجار كانوا الطلاب قد زرعوها وكبرت وتعملقت. تحيط ببوقا تلال من الجهة الغربية, انتشرت فوقها المقابر تقابل المعهد تماماً، وقد أحاطته البيوت من جميع اتجاهاته، قارنت بين حديثه والصور التي حملها. والواقع. وعوضاً من أن توقف الجهات المعنية ذلك التمدد المخيف, تركته ليد العبث بين قطع الأشجار, وخراب في الأرض الزراعية التي كانت تعطي الخضر الموسمية. وسكان اللاذقية يعتبرون بوقا منتزهاً صيفياً. نظراً للتميز بالهواء البارد, والإطلالات الساحرة، ومجموعة الينابيع العذبة, ومنها من لا يجف صيفاً, تجنبت التكلم بهذا الموضوع مكتفياً بأن المعهد يخرج الطلاب بأعداد قليلة. وأن كلية الزراعة التي افتتحت في جامعة تشرين قد حلت مكانه. مهتمة بالغابات. والمؤسف بعد ذلك أن التبدلات التي طرأت. والحرب التي واجهتها البلاد والفساد الذي توسع. جميعها عناصر أدت إلى الفوضى التي عكست تواجدها وكانت ذاكرة الرجل قد عرفتها بعذريتها, وطبيعتها, وجماليتها الصافية..
•    خصوصية الأمكنة:
وفي فكرة كهذه تبرز قصائد الشعر العربي القديم التي تغنت بالأمكنة. بل قدستها جعلتها متوازنة بين هوان الأرض إلا موضعاً. وهوان العمر إلا ساعة. أهناك أسمى من ذلك التعبير وهو يجسد أحاسيس البشر ومشاعرهم, وتعلقهم بالأرض حاملة معاني القيم. وفي رواية للكاتب الأمريكي وليم فوكنر عنوانها اللصوص يتحدث عن زمن شهدت فيه إحدى المدن الأمريكية شق الطرق, والعمران, وصناعة العربات. وربطها بالشخصية محافظاً على ذاكرة المكان والوجوه التي عرفته وعاشت فيه. وكان من واجب هندستنا المعمارية المحافظة على الخصوصية وعدم اختراقها. وكي لا نظلم الهندسة، فإن البيوت التي أقيمت هي بلا دراسة هندسية. ولا ترخيص قانوني وفي مثل هذه الحالة من يحافظ على خصوصية من . طمس معالم أثرية كان من المفترض إبقاؤها. حمام روماني بقي في حالة استعمال حتى مرحلة ما بعد الاستقلال ودثرت معالمه لاحقاً. وقد أخذت آلة الحفر والهدم مجالها من دون انضباط. والمنطقة مرتفعة عن مركز المدينة تنحدر من الشرق إلى الغرب حتى شاطئ البحر في لوحة تمتزج بالألوان. لم يهتم بها فطمست ملامحها, وغادرتها روح المكان.
•    الامتداد الطبيعي:
بين بوقا الزراعية, أو ما أطلق عليه اسم المنتزه, أو الحمام وبلدة سقوبين التي أصبحت حياً من المدينة بحدود 3 كم, كانت محاطة بالبساتين بعد زحف الاسمنت اتصلت سقوبين ببسنادا, ومن ثم بوقا. وظهرت الأبنية المتلاصقة التي تفتقر إلى أبسط أنواع الذوق من دون مراعاة لترك فراغات تسهل تقديم الخدمة التحتية, صرف صحي. ماء. كهرباء. توسيع طريق. فتحول المحيط إلى مركز سكاني مكتظ جداً. يضم حالياً أكثر من 150 ألف نسمة, وتضاعف مع وصول الإخوة الوافدين من المحافظات الساخنة. فصارت الخدمات العامة غير كافية ولا تستوعب الأعداد. حالات من الازدحام الشديد يومياً في الطريق الواصلة بين سقوبين حتى مدخل المدينة. وأصبح الوصول يستغرق أحياناً أكثر من ساعتين. وفي حال حصل أي حادث مهما كان فإن ذلك سوف يطيل المدة حتى يتم إخلاء المعرقل. هذه الشكوى تكررت على لسان الساكنين. مع عرض لمشاكلهم اليومية الأخرى. بين الماء التي لا وقت محدداً لها في الضخ أو الانقطاع والكهرباء, وخدمة الهاتف الأرضي وهي غالباً ما تكون متوقفة بسبب ربط مقسمها بالتيار الكهربائي. ومنذ عشر سنوات حتى الآن لم تتمكن محاولات ضبط المجاري والصرف الصحي الانتهاء من عملها الذي يعرض الطريق الوحيد للحفر ثم الردم, والطريق غير صالحة لعبور العربات. وعلى القادمين أو الخارجين اللجوء إلى طرق فرعية ترابية وأثناء هطل المطر فإنها تبدو نهراً حين يستعرض السكان معاناتهم فهم يوضحون أن لا شيء في بيئتهم يصلح لأن يشكل استقراراً حياتياً, ويجدون أن سقوبين انقلبت من قرية صغيرة جداً إلى مدينة بعدد سكانها من دون أن تحمل مؤهلات ذلك. ويلاحظ الزائر الهول الإسمنتي الذي وصل إلى حرم الطريق الضيقة. ومشروع الاوتستراد المقرر تأخر إنجازه كثيراً. علماً أن الجهات المعنية كانت جادة فيه ليخفف من الضغوط اليومية على حركة المرور. وفي المحيط منطقة جب حسن وكأنها على سباق مع جوارها في قطع الأشجار والبناء العشوائي.
•    طمس الملامح
عرفت المنطقة بمواقعها الأثرية كما هو الحمام الروماني. وعين بسنادا. وعين سقوبين المشهورة. وقد عثر فيها على تمثال صغير (لفينوس) واعتبر من اللقى المهمة جداً حسب الدراسات الأثرية. وإذا ما اتجهنا إلى الشمال أكثر فسوف نرى بلدة سنجوان . حيث الإنسان البدائي الأول. كما دلت الدراسات وهي لا تبعد كثيراً عن سرير نهر الكبير الشمالي. وفيما مضى كانت قرية ريفية نموذجية فيها (الباطوس) بمنتصف الساحة لعصر الزيتون. وجاروشة القمح. وبقايا البيادر. وجميع هذه الملامح طمست مع المد العمراني الذي لم يكترث بقيمه أثرية. ولا تاريخ . فقدت المناطق معنى تسميتها بلدة وبين التحول إلى مدينة. وتراجع الخدمات الملحوظ. واستئصال المزايا القديمة واللعب بالطبيعة وجماليتها.. خرجت المساحات المذكورة عن ألق حضورها القديم. حين تسلم السيد إبراهيم خضر السالم مهام عمله كمحافظ للاذقية في الوقت الصعب جداً. وقد وجد الفساد سابقاً مستنقعه القابل لنمو كل أشكال العفن, أعلن موقفه الصارم ضد البناء المخالف الذي تجاوز كل حدوده في الاستهتار والاستسهال. وقام بحملاته التي توقفت حالياً. ليس لأن المخالفات انتهت؛ بل لأنها تتم في الخفاء وبالسرعة المطلوبة وعين الرقيب ترى وتغض الطرف ولكل شيء ثمن هي المعادلة التي لن تنتهي إلا مع قبع جذور الفساد. لم يعد بالإمكان تغير وجه التشوه, ولا إجراء إصلاحات ما , لكن من الممكن إنقاذ ما تبقى, البحث عن حلول لانتشار مقابر التلال في محيط بوقا.. الإسراع في إنجاز الاوتستراد المخطط له. تطبيق قانون البناء وعدم تجاوزه. ومكافحة يد العبث التي استفحلت حتى منتهى الوقاحة. والنهوض ببوقا أخرى تؤدي مهامها الزراعية كما ينبغي أن تكون . ولنا في القادم المنتصر الآمال الكبرى التي ستتحقق.