عاهرة أنت أم قديسة؟.. المدينة والمبدعون … مدائن طيبة زينها الأدب وأخرى مدنسة تعج بالفساد

عاهرة أنت أم قديسة؟.. المدينة والمبدعون … مدائن طيبة زينها الأدب وأخرى مدنسة تعج بالفساد

ثقافة

الأحد، ١٠ يناير ٢٠١٦

نجاح إبراهيم

في عيون المبدعين بدت مرّة السيدة الجليلة، المقدسة، التي ترفل بغلالات الطهر والنور، حتى استحالت في نظرهم رمزاً مكتملاً يمازج بين جمال ماديّ، وجمالٍ روحي، كما عند شعراء الإغريق إذ ظنوا مدينتهم «طيبة» وقد شيّدت أسوارها من القصائد والغناء. في حين رأى البعض مدينته مدنّسة، تعجّ بالفساد والضوضاء والعهر والوهم والذكريات المؤلمة، تمارس الوجع والاستلاب بحقّ حاملها، فالمكان ذاكرة دائمة النزف لا تشيخ، ذاكرة مؤلمة وموجعة. في معظم النتاجات الأدبية التي استطعنا الاطلاع عليها، وعبر عقود.

الشعراء ومدينة الحياة
لم يكن الكتاب والشعراء راضين عن المدينة، ولا لاهثين إلى الحياة فيها، على الرّغم من رغبتهم القاتلة لخوض المغامرات فيها واكتشاف الجديد، المستور، ولما توفره من سبل للراحة والمتعة، والخروج عن سرب التقاليد والقيود، بيد أن شعوراً بالغربة والظلم والقهر لا يخفى عمن يمشي في دروبها، ويتشوّق إليها، فالوجه الآخر منها يدفعهم لتعهيرها، ولصق عيوب بها، وذلك لفقدان القيم والمعايير الاجتماعية فيها، والتي غدت متفككة لا يمكن لها أن تلملم هذا التشتت، لأنها هي في حدّ ذاتها لا تقف عند حافة قيمة أو مُثلٍ، بسبب تغييراتها المستمرة وتقلباتها، وبالتالي اشتعال التناقض فيها. فعلى الرّغم من اتساعها تضيق لدى هؤلاء، تغدو دائرة مغلقة بعد أن كانت فضاءات مفتوحة ومشرعة على أحلام لا تحدّ. الشاعر الفرنسي «بودلير» يراها قاتلة للرّوح، وموحشة وخانقة وضيّقة، يقول: «إننا هالكون من حيث نريد أن نحيا، إننا نعود إلى حالة التوحش عبر أنقاض مدينتنا. «فهو لا يرى في باريس مدينة الجمال والعطر والفنِّ والحلم، وإنما يرى الموات والتخشب والتقلب المزعج، يراها باعثة قلق وضياع، لهذا فإنه يسعى لإيجاد بديل منها ليتخلص مما علق به من إحساس بالاغتراب» إن باريس القديمة لا توجد الآن، لقد تغيرت. وثمّة دعوة للشاعر «الأخطل الصغير» لترك المدينة بكلّ مغرياتها، والعودة إلى القرية حيث الطبيعة الجميلة، والهدوء والسكينة، فهو يحمّل المدينة وزر الانسلاخ عن الطمأنينة والراحة»: عودوا إلى تلك القرى فلقد سلختكم عن قلبها المدن» يسانده بالفكرة والرأي الشاعر «صلاح عبد الصبور»، ففي قصيدته «الخروج» يشهر ذلك الانسلاخ عنها لييمّم وجهه شطر الصحراء، ليكون بمقدوره العيش حرّاً ووحيداً طارحاً عباءة الألم: «أخرج عن مدينتي، من موطني القديم مطرّحاً أثقال عيشي الأليم. والشاعر «فاروق شوشة» لم يجد في المدينة غير جدران عازلة ودروب ممتدة مُدهشة، يشعر بأنه ضائع وحزين، بل يشبه الأموات من شدة الخراب»: ضائعٌ في هياكلها ميتٌ خرب القلب مخترقٌ في الضلوع. «في حين الشاعر «بدر شاكر السياب» يشعر بأن مدينته بغداد وقد تصحّرت نتيجة الخيبة والإحباط الذي مُني به بسبب فسادها، فبغداد حلت فيها اللعنة ك «عامورة» التي دعا إلى استيحائها، والتي نزل فيها غضب الله، ليقارنها بمدينته ويسقط الخراب عليها لأنها تجرّدت من الطهر: «أهذه بغداد؟ أم إن عامورة عادت فكان المعاد موتاً؟» إلى هنا نجدُ في الشعر أن المدينة تبدو مكاناً مُدنساً، فهي تغرق في الرذيلة والوحل، والناس يستمرئون واقعهم، والمبدع لا يحاول أن يزيل هذا الغطاء الملوّث عنها، بل تعمّد إلى إفراغها من كلّ ما هو جميل أن وجد فيها، ويبرزها كعاهرة تفوحُ رائحة البغي منها كما فعل فاروق شوشة: «وجدتك عاتية القهر شامخة العهر فاسدة الأمكنة. «ولعلّ أكثر من كان إحساسه عارماً بقسوة المدينة، وبتشظيه فيها، يفقدها أيّ ميزة يمكن أن تمتاز بها، هو خليل حاوي وما قاله في بيروت: «عانيتُ في مدينة تحترفُ التمويه والطهارة.

المدينة في الرواية
أما في السّرد الرّوائي، فقد كانت المدينة فضاء مفتوحاً في روايات الأديب «حنا مينه» وكانت نظرته التي أسقطها على أبطاله، نظرة سلبية، تفصح عن شعوره بالغربة والضياع والفساد، وهي زائفة ومخلخلة تعبّر عن فقدانٍ لأي تماسك. والعلاقات الاجتماعية فيها واهية ومخزية، وهي ساحقة للإنسان تجعله في جوع ومعاناة دائمة، فالوحل يُغرقها، وما الوحل سوى الأوضاع السياسية التي تنشرُ فساداً وبالتالي قهراً اجتماعياً. ومدينة حنا مينه هي مدينة ساحلية، ففي معظم رواياته يعاني بطله الموج والعواصف والأنواء والرّياح، يرمز بذلك إلى الاستغلال والمعاناة بين قوّتين متصارعتين، أولاهما تبتغي انتزاع حقّ، والثانية استعادته. فيبرز الكره لها، يقول بطل رواية «المرفأ البعيد» سعيد حزوم: «جلستُ في المنشية قبالة الملهى، كانت موسيقا راقصة تنبعثُ منه، وجهاء المدينة وأثرياؤها يسهرون في الداخل، والعائلات الكبيرة هنا والفرنسيون… «فالبطل يشعرُ بالاستلاب والقهر والغربة في المدينة، ويقوم ببحث دائم عن عمل ليسدَّ جوعه، فلا يلاقي، ويستحق المكان منه باللعنة، يقول: «يا ميناء اللاذقية، اللعنة عليك وعلى كلّ موانئ العالم»، أما عن المدينة فيقول: «طفتُ في المدينة، سلكتُ الشارع الرئيس من المنشية إلى القلعة، دخلتُ الأزقة الفرعية، الضيقة، المزدحمة بالقمامة والقطط، رطوبة الشوارع كانت لزجة.. «ومع كلّ وساختها وانحطاطها ثمّة ما يُغريه فيها، هي تلك الأحياء الشعبية التي يعيش فيها الفقراء، متمسكين بحقهم بالحياة، هؤلاء المناضلون الذين يعيشون بكرامتهم. ومع ذلك تبقى المدينة بنظر حنا مينه، عاهرة لا تردُّ طالبها ولا تتمنع. في المقابل نجدّ مبدعين ينظرون إليها نظرة ملؤها القداسة والجمال والسحر، حتى تماهت بنبضهم الإبداعي فشكلت لغتهم، ورسمت رؤاهم.

دمشق والوجد الترابي
من هؤلاء الشاعر «نزار قباني» ومدينته المشغولة بوجده وعشقه الفريد. دمشق ذات الحضور الألق، فقد غدت هاجسه، كيف لا وقد حملها في قلبه وعقله أينما حلَ؟! فيتذكر أجواءها ورائحة حاراتها وعبق أسواقها، يقول: «فمن مقعدي أرى وطني في العيون الكبيرة أرى مئذنات دمشق مصوّرة فوق كلّ ضفيرة»، ومن شدّة حبّه لمدينته كان يراها في كلّ حبيبة، بل يرى كلّ ما هو جميل ومقدس في دمشق، كالمآذن والجامع الأموي بالمرأة التي يعشق: «ألاحظتِ؟ كم تشبهين دمشق الجميلة وكم تشبهين المآذن، والجامع الأموي ورقص السماح وخاتم أمي.. ألاحظت كم أنت أنثى؟!
فالشاعر يُماهي بين جمال المرأة وجمال مدينته دمشق، حتى إنه يحاول أن يؤنث المكان لشدّة انحيازه لمدينته الأثيرة. فهذه المدينة المقدّسة، ستبقى في وجدانه، راتعة، مستثناة من الخيانة أو التجاوز، أو رغبته في أن يتحوّل إلى غيرها: «أنت النساء جميعاً، ما من امرأة أحببتُ بعدك إلا خلتها كذبا»، أما في نثره فلا يخمد أوار عشقه لها، لا يخمد مهما صال وجال، إنه مربوط إليها بحبل من صنع الله، يقول: «كلّ أطفال العالم يقطعون لهم حبل مشيمتهم عندما يولدون، إلا أنا، فأنا حبل مشيمتي لم يزل مشدوداً إلى رحم أمي منذ 21آذار عام 1923 يؤكد نزار قباني على مكانة دمشق الرّمز الذي يربطها بأمّه التي تحتلُّ مكاناً مقدّساً في ذات الشاعر. إنني لأؤمن، وبعد الاطلاع على شعر ونثر نزار قباني أن قلعة دمشق وأبواب دمشق، وجوامعها وكنائسها وشوارعها وحجارتها مصوغة من بتلات الياسمين التي يجيد نزار قباني أن يرصّع قصائده منها، تماماً كمدينة «طيبة» ذات الأسوار المشيدة من الشعر والغناء. عند الرّوائي الفلسطيني «حسن حميد» نجد تقديساً عارماً لمدينة «القدس»، مدينة اللـه التي كانت عنوان روايته، فنظرته تتفق مع المدينة المجتباة في التراث العبري حيث هي «مدينة الله» وتعني الاتحاد والمحبة والتجذر فيها، وخروج الإنسان منها يعدُّ غضباً من الإله عليه، وهي مدينة لا يستعاض عنها. رواية حسن حميد «مدينة الله» تبرز القدس مكاناً وتاريخاً ومعتقداً ومعنى: «ستدهشُ وتصابُ بسحر المكان ومغناطيسيته حالما تصل إليه، وهذا ما حدث فعلاً، فأي مكان خرافيّ هذا الذي أراه، فالبيوت هنا أشبه بالدوالي عناقاً وتعريشاً وتآخياً وهمساً وجمالاً.. «ففي مدينة الله» تلمس الحياة أو الوجه الناصع والمشرق لها، وهي مدينة سالم أو مدينة السلام وقد حرفت سالم إلى شالم، وسميت بـ«القدس» اشتقاقاً من كلمة القدوس أحد أسماء اللـه الحسنى، كما سميت «بيت المقدس» أي بيت الله. فالراوي يسرد كلّ ما هو بديع ومقدّس عن مدينة الله، ويروح في سيرتها المعطرة والمنمقة بالرّيحان، ويترفها بالقداسة حتى لتصبح ممدودة على كتف الله. وعلى الرّغم من حبّ الأديب «ادوارد الخراط» لمدينة الإسكندرية وهي عنده: « مدينة سحرية ترابها زعفران، وهي هذا المحيط السحري اليانع النضرة، على حافة كون ملحيّ شاسع، بل غير محدود، وهي – الإسكندرية – عالم ساطع ونقي ونظيف وحيٌّ.. «بيد أنه يراها ذات وقت، من زاوية أخرى فيقول»: ولكنه عالم هشٌّ، حتى في إحساسي بأنه متمدّد على الساحل، متطاول مشدود هضيم الخصر، قابل للانكسار في أيّ بقعة، في أيّة لحظة يقع على حرف هوّة لا قرار لها، متلاطمة خادعة في لحظات هدوئها»، أمّا بالنسبة إلى مدينة القاهرة فهو يشعر بالغربة فيها وبالضياع، ويؤكد أنه مازال عابر سبيل في القاهرة على الرّغم من أنه أمضى فيها ثمانية وعشرين عاماً يحسّ وكأنه على سفر! في مسرحيته «مونودراما» يُبدي الكاتب الدكتور «عباس علي» موقفه من المدينة على لسان بطله المعذب الذي ألقي به عند مكب للنفايات خارج المدينة، فتمنى على القدر أن يسانده وينتشله.