تطور المعنى واتساع افق القصة القصيرة في قصة

تطور المعنى واتساع افق القصة القصيرة في قصة " الإقلاع" للأديبة هدى حجاجي

ثقافة

الثلاثاء، ١٨ سبتمبر ٢٠١٨

قراءة في قصّة للأديبة هدى حجاجي عنوان المقال: " كما في عالم البرزخ; انتظار بين حياتين إحداهما نقطة المغادرة، والأخرى انغلاق الدّورة الوجوديّة وارتخاء طريق العودة نحو الضّوء الأخير. كما في هذا العالم تبدأ قصّة  للكاتبة والأديبة المتميّزة هدى الحجاجي. في"المطار" يبدأ كلّ شيئ وينتهي كلّ شيئ; الخواطر الشّاردة والعذابات اليوميّة والاستطرادات التي لا تنتهي. التّفاصيل الصّغيرة والأحداث الجليلة، الأحلام الطّفوليّة والوالهة في ٱن، تتولّد ثمّ تنكسر في وميض البرق، والمغلّفة من العمق بٱلام لا تنتهي في سنين الغربة والحنين... إلى غربة جديدة. "المطار" في القصّة فضاء مكاني ينبني على المفارقة بين لحظتين: التّخلّي/ الاستبدال، البقاء/ المغادرة، الوراء/ الأمام. والسّارد بين هذا وذاك يشقى شقاء مضاعفا: شقاء الكدّ والعمل بعيدا عن الدّيار التي لفظته قسرا من أجل لقمة العيش، وشقاء ضرورة العودة إليها لأنّها موطن الحنين وأصل الولادة. وفي" المطار" أيضا بؤرة الكون والمرئي واللامرئي بصخبه وسكونه (صخب مغلّف بواجهات نظيفة) يحكي صورة المعمورة الملوّنة بجمال الطبيعة وما أضافه الإنسان إليها من بدائع الاكتشاف كما يراها النّاظر في المرٱة الكبيرة. ولكن خلف المرٱة يكشف الصّوت السّرّي القادم من" الجريدة" (صوت السّارد الخفيّ الذي يتّخذ من وسيلة الإعلام أداة سردية) الوجه الحقيقيّ للوضع الإنساني: حروب وتطاحن برّا وبحرا في الأسافل والأعالي (مصرع شخص، جرح اثنين، استمرار الإعدامات والاعتقالات، الاشتباكات تتصاعد...) شيوع البشاعة وتحلّل عقود الأمل، كلّ هذا هو جوهر حقيقة الوجود البشري الذي تعرّيه القصّة. وبهذا يرتقي المكان/المطار في مراتب التّرميز ليصبح حمّالا لنزعة صوفية تتلبّس روح السارد وهو يهيم بين اليقظة والإغفاء ويصبح المطار نقطة/نقطة الإقلاع رقصة صوفية مسروقة من الزمان يتخلص فيها ذلك السارد/ الشيخ من أرضيته الملوّثة برائحة الأجسام البالية (ويماثلها في القصّة "صخب المكان" ويوميات جماعات الانتظار وحديثهم عن غلاء الأسعار)، ليطلب الانعتاق. فالمكان/المطار ممرّ من ضيق الدّنيا(الأسفل) إلى رحاب المطلق (الأعلى), وهي رحلة شاقة فيها اختناق السارد المماثل لمكابدة الشيخ الصوفي "الرحلة معطّلة لعدّة ساعات... لكن جسده ثقيل " هكذا تبدو القصة في النموّ في مراقي الأوجاع الانسانية، من الوجع الشخصي اليومي(تعب الأطفال، التفكير في هدايا الأقارب...) إلى الوجع الجماعي(الضيق الاحتماعي، الحروب...) وأخيرا إلى الضيق الوجودي (عشق فكرة الطّيران). لقد أجادت الأديبة هدى الحجاجي صراغة جغرافيا المكان ودققت في اختيار عناصره وطوّعتها للتعبير عن جملة الهموم المتراكمة على صدر الإنسان العربي المغترب (الاغتراب بمعانيه المختلفة). فالحقائب شذرة مكانية رمزية تعمّق معنى الشّرخ في المكان وهو يتموّج بين البدء والمنتهى. في الحقائب شقاء العمر وزاد العبور من الأمس واليوم إلى الغد ومن الأسفل إلى الأعلى، والحقائب حصيلة جهد دنيوي للمغترب للمغترب وحصيلة جهد أخروي للمتصوف والبطل في النص هو كلاهما. مكبّرات الصوت تحيل على موجة الضجيج التي لم تألفها الأنفس البشرية، الكمبيوتر المُغطّى يعبّر عن أسرار التكنولوجيا التي لم تتوقف وعن أسئلة ضريبة المدنية. وفي المكان/المطار أيضا مقتنيات أخرى لم تكن إلا لعبة تمارسها المؤلفة في توزيع الأصوات السردية فالمذياع والجريدة... كل ذلك يؤول إلى أدوات فنية معينة في مسألة الأداء السردي. فالتعبير عن الهموم القريبة والبعيدة/البسيطة والمركبة لا ينطق بها السارد/الانسان فقط بل تضطلع بها الأشياء أيضا. وهذا في رأيي ابتكار من المؤلفة في حبك ناصية الملف السردي في العمل القصصي. ولئن بدت عملية الحكي موكولة إلى ضمير الغائب (هو) فهي في تواصل وتناوب مع الأصوات المشار إليها. جميعها يتبادل في تناغم محكم نسيج نغم القص تماما كفرقة أوركسترا يشرف عليها المؤلف طردا وعكسا دون أن يظهر في مساحة الأحداث إلا نادرا أو مرة واحدة ثم يختفي كما لاحظناه في بداية القصة حين يتوجه بالحديث إلى المتلقي عند وصف المكان"تحس أنه"، فهو كمعلم فن اليوقا يقدّم لمريديه فنون القتال دفاعا عن النفس ثم يختفي ويراقب من بعيد. كذا كانت علاقة المؤلفة بباقة الأصوات السردية في النص، تُلاعِبها قبل الكتابة وتدربها ثم تتركها في متاه السرد تنظم نفسها بنفسها.

ظهر هذا الانتظام في القدرة على إثراء ديناميّة السّرد من خلال مُعِينات أخرى مثل الوصف والحوار. لقد استولى الوصف على مساحات هامة من القصة واستفرغ هموم الشخصية من خلال الجمل الاسمية المتواترة والمتعاقبة والسريعة، وهي نوع من التركيب النحوي الإخباري المستقرّ المعبّر عن الاستمرارية والثبات في ٱن ولزوم الحال لمحلّه فعبّرت عن جمود المشاعر وضيق الأفق (الفردي والمحلي) وأحبطت إمكانية فرحة الشخصية بالعودة إلى الوطن. وعلى العكس من ذلك كان الحوار ضيفا على أهبة الرّحيل تدلّى من الألسن تدلّيا لطيفا، ظهر فبي لحظة الاشمئزاز من الانتظار (انتظار ما لا يأتي بلغة الشاعر محمود درويش)، فيُشارك المُعينات الأخرى_ بعد أن يذهب لطفُهُ _ في صياغة تفاصيل موكب المعنى المأساوي الذي تتكتّم عليه القصة ويشي به البطل "المّثقّف"، فهو يُجابه الحوار بمُتعة الصمت ولذّة الانقطاع; حوار ينشأ جماعيا وتلقائيا بسبب الفراغ والانتظار، ويطالُ مواضيع اليوميّ تلك التي لا تغري الشخصية المثقفة فتصفه ب "النبات الشوكي" وب"سوق الخضار"، ثم تنسحب إلى مركبة الدُّوار الخاصة بحثا عن معنى ذي قيمة. أمّا من حيث البناء فالقصّة قَصَصٌ مضاعف بدت كمحيط كبير تسبح فيه جُزُرٌ لامتناهية كدوائر مستقلة ولكنها منفتحة على بعضها البعض في حالة صبابة وبوح جماعي. القصة الأمّ يؤثث أحداثها البطل وأفراد عائلته ; الشّرايين الدموية الأصلية. وحين ندخل من هذه البوّابة/البطل، نكتشف الجُزُر/ القصص الأخرى، أبطالها مسافرون هم أيضا. قصة المسافر الذي يتفقّد حقيبته خوفا، وقصّة المسافر الذي ينصت إلى المذياع وقصة الزميل الذي التقاه في المكان صدفة... مجموعٌ من المشاهد يتّكأ بعضه على بعض ويشُدُّ أزره في بناء هندسي محكم، كخليط السُّويقاء لكنه يُسقى بماء واحد. هذا الكم من القصص السريع في عمل يوصف بأنه من نوع القصص القصيرة يُعتبرُ فتحا في مجال هذا الجنس الذي بحكم حجمه لا يقوى على التنفّس إلا من رئة واحدة. ولكن قصة الأديبة هدى حجاجي كشفت إمكانيات رهيبة على التوسع في المساحة المحدودة في هذا النوع من الكتابة، والقدرة على امتلاك رئات تنفسية سردية متعددة دون تجاوز خصوصية الحدود المرسومة للقصة القصيرة. فالكاتبة جعلتها كالبالون القابل للانتفاخ، دون أن تتخلى عن الشروط الأساسية والمكونات اللازمة من قبيل الدهشة والمفاجأة وسرعة الإيقاع. ومن أمثلة التضخم المجدي والكثرة الإيجابية داخل الفضاء القصصي القصير، تعدّد الشخصيات واختلاف هوياتها كما ينطق بذلك فضاء المكان، فهي_أي الشخصيات_ كخلية النحل كما وُصِفَت في القصة. ولكن كل شخصية داخل هذا النظام تقوم بالدور الموكول إليها من خلال علامات رمزية تشي بها، وأهمها عائلة البطل المتدلية كشجرة خماسية الأغصان; أب وأم ورضيع وطفلان، تبدو وكأنها شجرة طلع الشياطين; بكاء الرضيع، تعب الأمّ، هموم الأب وانشغال الطفلين. يوجد الجميع في غابة أوسع لا نظير لها. يضاف إلى هؤلاء شخصيات أخرى; جنسيات مختلفة، ولهجات متعددة في فضاء لا نهاية له رغم صغر حجمه. إنها رحلة الانعتاق من واقع الأرض المأزوم وحقولها المحروقة برصاص الفراغ وبنادق غياب المعنى نحو الأعلى حيث "قبّة السّماء" الواسعة، المُطلّة على "محيط عجيب... عجيب" قصة الأستاذة هدى حجاجي طبقات من المعنى وطبقات من القص في لفافات في تماس مستمرّ تتجاور ولكنها تتشابك، وتشي وتلمّح دون أن تقع في التصريح الفاضح والوضوح الفجّظ فهي- القصة- من سلالة الشذرة/ الرواية أو الرواية/ الشذرة رغم انتمائها إلى جنس القصة القصيرة. لقد تمكنت الأديبة هدى الحجاحي من فتح فضاءات تخييلية سردية عميقة وواسعة، كما استطاعت فتح مجاري عميقة لتسربات المعنى ودفقه.

الأستاذ الشاعر والناقد فتحي الحمزاوي                                                                       تونس