عندما بكى طيب تيزيني! … إحساس الإنسان المفكر وهو يرى انهيار حلمه

عندما بكى طيب تيزيني! … إحساس الإنسان المفكر وهو يرى انهيار حلمه

ثقافة

الاثنين، ٢٠ مايو ٢٠١٩

إسماعيل مروة

اليوم، ودون مقدمات، وبهدوء مطلق غادر أستاذنا المفكر طيب تيزيني دنيانا، وهو يحمل غصصاً وآلاماً لما حدث في سورية، المفكر الذي قضى حياته محاولاً إبعاد الظلام والظلامية، وباحثاً عن سبل النجاة والتحضر الفكري العربي، فذهبت كل جهوده هباء، وغادر وهو يشهد انهياراً إضافياً للقيم.
قد نختلف معه، وقد اختلفنا عندما درسنا في ثمانينيات القرن العشرين، لكننا لا نملك إلا أن نشهد بثباته على رأيه، ومنافحته عن منهجه وآليات تفكيره، ويسجّل للدكتور تيزيني أنه لم ينقل البندقية من كتف إلى أخرى، وبقي رجل فكر يسمو للإنسان وبه.
اليوم غاب أستاذنا المفكر، و«الوطن» تنعيه بآخر بوحه لها في أثناء الحرب على سورية، وفي هذا البوح معالم المفكر المحب، فلروحه السلام في رقدته الأبدية، وللثقافة السورية، إن أدركت عمق الخسارة، العزاء بغيابه وغياب قيمة من القيم، وقمة من القمم.

في صدر الصالة المعتم كان يجلس أستاذنا الدكتور طيب تيزيني، شعراته الشائبة دلتنا عليه، يتكوم على ذاته واضعاً تاريخاً من الكتابة والفكر أمامه منصوباً كما مائدة الفكر عند رب الفلسفة سقراط.. نهض، رحب، وحتى أبدأ الحوار معه في جلسة لم أحظ بها من قبل، عزيته بالدكتور البوطي الذي كان خصمه ومعادله في الجلسات الحوارية، فالتفت وقال: لم يقتلوه عندما قتلوه، بل قتلوني أنا، نعم قتلوني أنا، فقد اغتالوا المكافئ والخصم العنيد والمملوء، وتركوني وحدي أحاور ذاتي، ولا أجد من أتحاور معه!
وسط دهشتي واستغراب الحاضرين أضاف د. تيزيني: إن قيمتك تأخذها من الآخر الذي يخالفك، وليس ممن يوافقك الرأي، وعندما تفقد خصمك تفقد ذاتك.
وانتابته نوبة من شرود، ظننت معها أن أستاذي يستذكر شيئاً، أو غاب عنه أمر ما يريد أن يسترجعه ليحدثنا به، فإذا به يعابث الأغراض أمامه، ويعيد ترتيبها لتبقى على حالها بعيدة عن الفوضوية التي على الطاولة كلها باستثناء حيزه المكاني، إذ لم يتحرك على كرسيه أبداً، ولم يغير في جلسته، ولم يصدر صوتاً، ولم يرفع نبرته، لكنه بقي على هدوئه يضج المكان به وبحضوره الآسر.
قبل ثلاثة عقود دخل د. تيزيني إلى قاعة التدريس ليدرسنا يومها مادة من مواده بديلاً من أستاذ تم إعفاؤه، في ذلك اليوم كانت القناعات التي لدي مخالفة تماماً لقناعات وآراء د. طيب، وكان الخلاف بين الأستاذ الذي هو، والطالب الذي هو أنا على أشده، وعندما كنت أناقشه ترتفع نبرتي، ويبقى على هدوئه، وكنت أظن أنني سأغسل يدي من المادة والنجاح فيها، وعندما صدرت النتيجة فوجئت بالدرجة التي كانت فوق توقعي، وفي طريقي كان د. تيزيني بقميص أبيض ويحمل حقيبته الجلدية باتجاه مكتبه، وحين سألته عن السبب، ابتسم بهدوء وقال لي: لا أذكر أنني تعاطفت معك، أو حملت عليك، النقاش يا بني للفكر والإغناء، والدرجة لما تكتبه في ورقتك.. لا يمكن للأسوياء الذين يريدون إغناء الفكر أن يحملوا الحقد على من يخالفهم إلى الوقت الذي يحين فيه الانتقام.. مبارك لك درجتك وتأكد بأنك تستحقها.. وغادر د. تيزيني دون أن يترك متسعاً للأسئلة أن تلفه، وتحتوي قامته العالية جداً، والتي هي من أهم قامات الأمة الفكرية..
في كل مرة كنت ألتقي أستاذي في أحد المواقف ينتظر الباص أو الميكرو ليذهب إلى غايته، وفي كل مرة ألتقيه أحتاج لإعادة التعريف بنفسي، ولتذكيره بالتتلمذ علي يديه وكلما دعوته للكتابة في أحد المنابر التي عملت بها، وخاصة في «الوطن» دعوة من السيد رئيس التحرير، كان يجيب بلطفه: سأحاول، وليس لدي مانع من الكتابة، ولكن عندما أجد نفسي قادراً على المصداقية، وعندما أقول له: لن يحذف لك شيء، وما تظنه لن ينشر سينشر، لأنك معلم فكري، والذي تريده هو صلاح البلد، يبتسم ويقول: ليست المشكلة في المنبر، المشكلة في الكاتب، ومسألة الصدقية والمصداقية تتعلق بالكاتب، فهل أملك القدرة على الصدقية؟ عندما أجد نفسي قادراً على الصدق، وعلى أن يكتب قلبي ما يدور في رأسي كتب حتماً.. في كل مرة كنت أظن أن الأمر فيه تهرب، وكنت أظن أن أستاذي بتاريخه الكبير، وبوزنه العلمي قد أعدّ العدة للمغادرة، ولا يريد أن يرتبط بأي التزام.. لكن لقاءاتي به في حمص المحطة، وفي شوارع دمشق كانت تؤكد أن الطيب لا يزال طيباً، ولا يريد المغادرة، وأن ما غاب عني من رأيه لا يزال بعيداً جداً عن استيعابي المتعجل والبسيط.. ليلة الجمعة الفائتة هتفت لصديقي د. نبيل طعمةلأمر ما، فأجابني: بانتظارك… لم أكن مستعداً، ولكنني ذهبت لأفاجأ به يقول لي: أحببت أن تكون في جلسة مع د. تيزيني، بتحب؟
وكيف لا أحب وأنا الذي لا يعرف طريقة للوصول إليه؟!
اختار د. نبيل أن يجلس إلى حوار د. طيب ليقدم له ما يحتاجه، وكان موقعي قبالته، فسألته: كيف حمص؟ فأجابني: مليئة بالحماصنة، وابتسم وتابع: في كل مكان من حمص تجد الحماصنة الذين لم يغادروا ولن يغادروا مدينتهم وأرضهم، لذلك فحمص بخير، وأنا أتفاءل بالإنسان.. سألته: ولهذا لم تغادر أنت مع أن الجميع كان يتوقع مغادرتك، وبعضهم يترقبها، ضحك وقال: ولماذا أغادر ألست حمصياً؟ يجب أن تبقى حمص مليئة بالحماصنة وهناك أناس يحتاجونني، ولا يجوز أن أغادر وأتركهم، ما قيمة الفكر إن لم يكن كتابة وممارسة؟
أين كتبك سألته: فأجاب: الكتب القديمة انتهت، وهناك كتب تطبع وتجمع دون علمي وإذني، وأنا أقوم الآن بمراجعة الكتب، الفكر يتجدد كل يوم، ومن المعيب أن أنشر بحثاً دون العودة إليه ومراجعته، خاصة ما يتعلق بالمرحلة الحالية، أنا أكتب وأراجع بمساعدة ابنتي، وسأقوم بنشر القديم والجديد، وعملي يتركز في الفكر، وهنا صعوبة الأمر فالتسلسل مهم، ويجب أن أخرج من أمر لأدخل في الذي يليه بصورة منطقية.. ولكن ما يرهقني اليوم هو مشروع السيرة الذاتية، وأنا لا أزال حائراً إن كنت قادراً على الصدقية مع ذاتي والمصداقية مع الآخر الذي يقرأ ما أكتب، لكن الظروف تحكم…
وفي غمرة الحديث العلمي الجاد، قال الدكتور طيب: ماذا سأكتب؟ وأول مرة في حياتي أراه يطرق رأسه، ويبدأ رأسه بالاهتزاز وصوت بكائه علا، ودمعاته تحدرت، وكان عاجزاً عن إيقافها..!
أول مرة أشهد هذه القيمة القمة العلمانية تجهش وتعجز عن مداراة الدمع، وإنها للحظة فارقة في حياتي، حاولت وحاول د. نبيل تغيير الحديث، فرفع د. طيب وجهه وعيناه مضمختان بالدمع:
ماذا سأكتب؟ عن أي شيء سأكتب؟
إن ما رأيته في هذه السنوات لن أنساه ما حييت، ولم أكن لأتخيل أنني سأراه، إن أصعب شيء رأيته هو انهيار القيم، لأكتشف أن كل ما نتغنى به مجرد قشور، وأن الحضارة التي ندعيها لم تكن كافية لإظهار الجوهر، وعندما ظهر الجوهر كان الجوهر عهراً كبيراً يعجز المرء أمامه..!
عن ماذا أكتب؟
عن سورية المستباحة؟ وحدها تقف ممزقة عارية، والكل يقف حولها لنهشها واغتصاب رقتها وحسنها؟ عن السوري الذي كان رجلاً واليوم يمارس رجولته على امرأة مسلوبة الإرادة؟ عني أنا وقد تظاهرت أمام من لا يعرفني بأنني عالم دين لأصلح بينه وبين زوجته أو ابنته؟
عن ماذا سأكتب؟
نحن نجلس، وأخشى على سورية في الأيام القادمة من الانهيار. التاريخ الذي نحبه دمّر، والآثار والحضارة لم يبق منها سوى 20% فقط، كله نهب، إذا بقينا كيف سننهض، وأين جوليا دومنا وأم الزنار وخالد؟
لهذا لم تغادر قلت:
أجابني: ولم أغادر؟ وعلى ماذا أخاف؟ الفرد يبقى فرداً، وأنا أريد أن أبقى لأنني لن أغادر، وسأبقى للكتابة وسأبقى لخدمة مصالح الناس الطيبين، هم بحاجتي ويجب أن أبقى، ويجب أن تبقى، ويجب أن يبقى الجميع حتى لا نسمح بانتهاك بلدنا واغتصابها أمام الجميع، وحتى لا نكون مثل ذلك الذي لم يقدر على من لوث شرفه فطلق امرأته لأنها زانية وداعرة!
أنا باق ولن أغادر.
أعيد قراءة ما كتبته.. وأكتب الحالة الراهنة..
وسأحاول كتابة سيرتي الذاتية بما أمكن من صدق، ولكن الأهم أن تبقى سورية ملأى بأولادها، وألا نغادرها، هي اليوم تحتاج وجودنا، ونحتاج أجسادنا وعلينا أن نحميها وألا نسهم في تعريتها، وعلينا أن نعيد لها تاريخها.
شهدت في هذه السنوات ما أدماني، والبكاء قليل، اعذروني لكن الدمع الذي أحبسه يكاد يقتلني، وأنا المتمسك بالمعتق من البلاد والفكر.
بكى د. طيب تيزيني وهو يتحدث عن سورية، بكى وهو يخاف انهيارها، بكى لعريها أمام الغرباء، بكى لحضارة كنا ندّعيها ولم نحافظ عليها، بكى لقيم كان يظن وجودها ففوجئ بأنها غير موجودة..!
بريق عينيه
عمق صبوته
هدوء نبرته
علمية كلماته
صفات ليست في غير د. طيب، الذي لو أراد لكان زعيماً أو أي شيء في الخارج، وكلنا يعلم أنه دعي، ولكن طيب تيزيني أراد أن يكون حمصياً في سورية، وأن يبقى مع سورية ومع إنسانها، وكان قد حبس دمعاته وانتظر طويلاً حتى حانت تلك الساعة التي بكى فيها، ما أعمق البكاء..
قبل أن أغادر قلت له: سأكتب..
ضحك وقال لي: هل تأتي الأفكار إلا في لحظات الحقيقة؟ أكتب ما تشاء، وإن رأيت ضعفي فهي أعلى درجات قوتي بك وبخصمي، وهي سبب بقائي هنا..
لن أغادر أبداً، كلما أردت أنا هنا ومع الجميع، وأنتظر لحظة الصدقية والمصداقية لأكتشف من أنا؟
طفرت دمعاته من جديد، فآثرنا المغادرة قبل أن يدلف إلى عوالم لا نقدر على استيعابها.
شكراً لك صديقي النبيل على ما خصصتني به، فأنا بحاجة للدخول في الدورة الدموية لأستاذي، وشكراً لأستاذي د. طيب تيزيني الذي منحني رؤية جوهر نقاء الدمع، والذي يختصر المقالات والكتب، ولا يحتاج لأي كلام بعده..
وإلى دمعة قادمة تتبعها ضحكة.