وللدماغ نزيف لا يصل الذاكرة.. ميس الكريدي بعد «أنكيدو» تفتح عالم المرأة

وللدماغ نزيف لا يصل الذاكرة.. ميس الكريدي بعد «أنكيدو» تفتح عالم المرأة

ثقافة

الأحد، ٢٨ يوليو ٢٠١٩

بعد أن تحدثت عن أنكيدو الذي رسمته لا كما رسمته الأساطير، فكان العاشق الممكن، وكان الرجل الملم تأتي ميس الكريدي إلى الحكاية لتقول للقارئ حكاية قد لا يقرؤها في مكان آخر، يرى أجزاء منها هنا وهناك، وربما يعيش بعض أجزائها، يتخيل بعض ما تروي الحكاية، ويجبن عن تخيل أجزاء أخرى.. تكتب ميس الكريدي «نزيف دماغي» لتروي حكاية امرأة، حكاية رجل، حكاية وطن، حكاية فساد، حكاية تآمر، وكل ذلك من دون أن تطلق شعاراً واحداً وبمهارة تلامس المشكلات في عمقها ملامسة من دون أن تزيد في التشريح لئلا تستنفر النزيف الدماغي الذي قد يودي بالحياة قبل أن تكتمل حكاية المرأة الملقاة على الكرسي الخلفي، وحكاية الأخرى ذاتها الملقاة على رصيف تنتظر من ينهضها من مكانها بعد أن قذفها الجنرال وانطلق بعجلاته، والمرأة الملقاة على سرير في مشفى تسترجع نزيف حياتها لا نزيف دماغها.. مع دم مهرق من حالة عشق، ومع دم تمثيلي سجل على شرشف سرير في نيويورك، ومع دم كان من الابن الشهيد الذي جمّد الدمع والعاطفة، وأبقى سيرورة الحياة القاتمة التي لم تستفد من فرصة إنجاب طفل ما، من رحم ما، من حالة ما، ليتابع مشهدية النزف الدماغي.
 
حالة حب
 
يبدأ الدكتور نبيل طعمة تقديمه للحكاية، «أجدها ترسل الأنين بين الحين والحين، وتعترف لوطنها وأناسيه بالحب، إنها وثنية في الحب، لكنها صادقة صافية في حسها، ملتهبة أحلامها، ومرتبكة حياتها، متعلقة بلذائذ الوهم، معترفة بالأقنعة التي تسرقها من واقعها إلى اللاخيال لتقول: لست أنا.. بل هي نزيف دماغي».
ولا فرق بين أن تكون نزيفاً بالتنوين لتكون الحكاية مروية عن الآخر، أو بالضم فقط لتكون حكاية ذاتية، ذلك لأن الكاتبة وحسب تعبير د. طعمة لا تهرب من ذاتها، وتعترف بالأقنعة، وتعترف لوطنها وناسها، فهي في الحالين جزء من الصورة قبل أن يتم رسمها وبعد أن اكتملت خطوطها مرسومة بحكائية مشوقة متداخلة.
إنها حالة حب، لكن حب ماذا؟
حالة حب، ولكن لماذا؟
حالة حب، ما نهايتها؟
أسئلة وأسئلة تأتي إلى الذهن ونحن نتابع خيط وخيوط النزف الدماغي الذي تلطت الكاتبة وراءه لتقول الكثير مما تفكر به، ومما عاشته، ومما رأته، ومما يتعارض مع وثنيتها بالحب حسب تعبير المقدمة.
توحد الحدث والشخصيات
إنه النزيف الذي يرافق الحكاية من بدايتها حتى الخاتمة، ففي الحدث حادث ونزيف، والحياة تحتوي النزيف ما بين ألم ومتعة وآلام مغص استمرت، ونزيف مصطنع على شرشف في نيويورك، ونزيف امرأة، ونزيف شهادة وشهداء، ونزيف وطن بثرواته وطاقاته وناسه.. ولم يكن لهذا النزيف أن يتحدث لا يوصف دون توحد الشخصيات، فإبراهيم هو نفسه السواس، وهو نفسه تركي، وهو نفسه المعلم، سواء كانت الشخصية جنرالاً أو متنفذاً معلماً أو غنياً، وتتداخل الأحداث لتبدد الوهم لدى المرأة، فمن ظنته وأحبته ليس هو المعلم، وهو الذي يمكن أن يكون قوّاداً يفعل ما يأمره به المعلم.. وروز هي نهاد، وهي الأم المنتظرة التي تنتظر عودة ابنتها إلى الأسرة، وتتماهى مع صورة الأب الذي يصله مال المهمة الذي ترسله ابنته فيعمل على ترميم بيته وتزويج ابنه، بينما نزيف ابنته يستمر في مكان آخر، هو يشعر به، لكنه يقنع نفسه بما أنه غير مرئي ولا يستطيع مشاهدته، هذا إن لم يكن لا يرجو مشاهدته فهو عاجز عن فعل شيء حياله!
وسواء كان الأمر في دمشق أو بيروت أو بروكسل أو نيويورك فإن الأمر واحد وليس بإمكان القارئ أن يتجاهل الإشارات إلى توحد الرؤى سواء كان العالم متحضراً أم لم يكن، وخاصة مع انتقال الشخصيات ذاتها في رحلة البحث عن وهم الذات حتى تكتمل المهمة ويتم إتلاف الملف في الجهات الوصائية التي جعلت الروح والجسد طوع المهمة، ولابد مع نهاية كل مرحلة من أن يغادر المعلم المكان، ولو أنه لم يغادره فإن النزيف سيستمر ولن يتم إتلاف ملف امرأة متهالكة تريد أن تعود لحياة عادية.. قبلت فيها أن تأخذ ولداً تعرف مصدره ليكون سلوة الأيام المقبلة.
نزيف دماغي لميس الكريدي روائي في حدثه، قصير في حجمه، بعيد في دلالاته، وهو نص معبر كتب بحب للذات وبروح من الكشف وتعرية الروح الإنسانية.. يعطي صورة صادمة وصادقة ابتداء من الشهرة والضوء والإعلام والصحافة، وتجنيد الجسد قبل الروح للوصول إلى الغايات، طموح يتوقد، وصاحب مصلحة يترقب، وتستمر اللعبة ويبقى النزيف نزيفاً لا يتوقف على أشلاء امرأة ووطن.