جامعة الدول “العربية”

جامعة الدول “العربية”

نجم الأسبوع

الأحد، ٢٠ مارس ٢٠١٦

محمد اسماعيل حديد
في الثاني والعشرين من شهر آذار، تطل علينا الذكرى الواحدة والسبعون لميلاد الجامعة العربية التي جاءت إلى الدنيا متزامنة مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام /1945/، وقبل أن يشعل عشاقها شموع الاحتفال بميلادها، نستميح أحباءنا الأطباء العذر إن فهموا من حديثنا ما يمكن أن يعتبروه تعدياً على اختصاصهم، فحسب مفاهيمنا لظاهرة الولادة، نراها: إما سهلة سلسة، أو عسيرة صعبة، أو محالة إلا بقيصرية، وأما المواليد فقد يأتون أصحاء معافين، أو مرضى يبرؤون بالعلاج، أو مشوّهين لا تجدي معهم أية طبابة!.

إن الجامعة العربية التي ستحتفل بميلادها بعد أيام، كانت ولادتها سهلة سلسة، دون متاعب ولا أوجاع، كيف لا، و”بريطانيا العظمى” هي من رعت واستولدت وعالجت لتكون تلك الولادة المريحة التي جلبت للعرب وليداً مشوّهاً كسيحاً، عاجزاً عن مواكبة دوره المنوط به، وأقله تحقيق تضامن العرب، والسعي لبلوغ وحدتهم ولم شملهم!.
إن تاريخ الجامعة العربية حافل بإنجازات صغرى، وإخفاقات كبرى، ونظراً لفداحة الإخفاقات ضاعت الإنجازات، وبدت إخفاقاتها وكأنها استجابة لأجندات خارجية، تسهر الجامعة على فرضها على العرب أكثر من كونها أجندات عربية تناضل الجامعة لفرضها على المعسكر الآخر!.
وحتى لا نقع في الإطالة، سنسلّط الضوء على أهم إخفاقات الجامعة في مجالين فقط، وهما في المجال السياسي، والمجال العسكري، دون التطرق للمجال الاقتصادي، والتربوي، والثقافي، والصحي، والإنمائي، حيث القائمة تطول!.

في المجال السياسي
إن ضعف ميثاق الجامعة العربية- في الحقيقة- هو السبب لأغلب الإخفاقات، فقرارات الجامعة العربية غير ملزمة، وحتى لو اتخذت بالإجماع، ولا توجد اتفاقية دفاع مشترك عسكرية، كما أن غاية أهداف الجامعة حماية حدود “سايكس بيكو” تحت عنوان بريء هو: “صون استقلال الدول واحترام حدودها”، هذا فضلاً عن احتكار الأمانة العامة للجامعة، وإسنادها في معظم الدورات إلى دبلوماسيين مصريين، هم في الغالب مزعزعو الولاء للعروبة، وراسخو الولاء للغرب، والأمثلة كثيرة، وآخرها تولي أحمد أبو الغيط منصب الأمانة العامة للجامعة.
وحيث إن الجامعة العربية لم تستطع منذ تأسيسها وحتى اليوم ردم الهوة الناشئة بين دولها، وبسبب تعدد الاتجاهات والمشارب، والعقائد الفكرية، على العكس فقد ازدادت التناقضات عمقاً واتساعاً، إذ لم تستطع الجامعة تسوية الخلاف بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية، ومنع وقوع مجازر أيلول /1970/، واقتصر دورها على خدمات ما بعد المجزرة!.
كما فشلت الجامعة في وقف الحرب الأهلية بلبنان التي استمرت خمسة عشر عاماً /1975-1990/، وفشلت في حل الأزمة العراقية– الكويتية /1990/، ما أفسح الطريق أمام تدخل دولي قام بما ينبغي أن تقوم به الجامعة العربية!.
كما نقلت الجامعة مقرها من القاهرة إلى تونس عام /1979/ عقب توقيع مصر معاهدة “كامب ديفيد”، وبسبب رفع العلم “الإسرائيلي” في سماء القاهرة، ثم أعادت الجامعة مقرها إلى القاهرة عام /1990/ رغم عدم إلغاء معاهدة “كامب ديفيد”، وبقاء العلم الصهيوني يرفرف في سماء القاهرة، وكانت هذه العودة إقراراً بفشل تخليص مصر من حبائل “كامب ديفيد”، وفي الوقت نفسه قرار إذعان وقبول واعتراف بشرعية “كامب ديفيد”، وما ترتب عليها!.
كما فشلت الجامعة العربية في المحافظة على استمرار عمل مكتب مقاطعة إسرائيل الذي توقف عمله في معظم الدول العربية، عدا سورية، بعد توقيع معاهدة “كامب ديفيد”، ما يعني فشل إنهاء المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني!.
يضاف إليه، موقفها السلبي من اتفاقية “أوسلو” ومن اعتراف منظمة التحرير بـ”إسرائيل” وتعديل ميثاقها الوطني، والتخلي عن الكفاح المسلح الذي اتفق الطرفان الفلسطيني والصهيوني على اعتباره “إرهاباً”، وفشلها في إنهاء الانقسام بين حركتي فتح وحماس، التي وصلت لأكثر من مرة إلى اشتباكات مسلحة بين الطرفين، خاصة بعد فوز حماس بالمجلس التشريعي عام 2006 وما بعد.
وكذلك تعامل الجامعة مع احتلال الجيش الأمريكي للعراق عام /2003/ على أنه أمر واقع لا جدوى من الوقوف في وجهه أو التصدي له سياسياً أو عسكرياً، وفشلها في وقف الحرب الأهلية الصومالية المستمرة منذ /2009/ حتى الآن، وإخفاقها في منع المجازر بحق أفقر شعوب الأرض، ووقف التدخل الإثيوبي والأريتيري في الشؤون الداخلية للصومال.
-في نهاية 2010 حل بأرض العرب وباءٌ  سمي “الربيع العربي” ، فأشعل المنطقة العربية بالفوضى الدموية التي بشرت بها ” كوندليزا رايس” وقد كشف هذا المناخ الموبوء، ضلوع دول عربية بتمويل وتسليح وتدريب واستقبال وتسهيل عبور إرهابيين من كل دول العالم، إلى أراضي بعض الدول العربية وعلى رأسها سورية، ليعيث الإرهابيون فيها قتلاً وحرقاً وتخريباً، نيابة عن الأعداء، وكان الأمر الأكثر سوءاً هو ضلوع الجامعة العربية في هذه اللعبة القذرة، ممثلة بأمينها العام المنتهية ولايته نبيل العربي.
ولا ننسى فشل الجامعة في الحفاظ على وحدة السودان، ومنع تقسيمه، وعدم اتخاذ موقف إزاء احتمالات سلخ إقليم دارفور أيضاً عن الوطن الأم، كما سُلخ جنوب السودان في شباط /2011/.
والفشل في معالجة الأزمة الداخلية في اليمن، ومنع تمزيقه، وعدم القدرة على وقف طيران ما سمي “التحالف العربي” من قصف دولة عربية عضو في هيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية.
كما يتوج كل مواقف الفشل والإخفاقات، الموقف المريب والمشبوه إزاء تغلغل الإرهابيين التكفيريين في سورية، وارتكابهم أبشع الجرائم بحق المدنيين، فضلاً عن التخريب المبرمج للاقتصاد وتدمير الموارد، بدل وقوف الجامعة العربية بدولها وقدراتها في وجه أشرس الهجمات الإرهابية ضد دولة عربية شقيقة، تميزت بنقاء مشربها، وصلابة موقفها المعادي للاحتلال والعدوان والإرهاب، ونظافة كف قائدها من الدنس السياسي، الذي ينجم عن مصافحة “الإسرائيليين”، وبدل مكافأة دولة هذا حالها، لجأت الجامعة العربية لتجميد عضويتها ومقاطعتها!.

في المجال العسكري
لقد لمس القادة العرب بعد خمس سنوات من تأسيسها، أن ميثاقها أغفل تشكيل قوة دفاع عربية مشتركة، تقوم بالتدخل عند تعرض أحد أعضائها لتهديد عسكري، لذا أبرمت في السابع عشر من نيسان عام /1950/ “اتفاقية الدفاع العربي المشترك” التي اعتبرها المتفائلون بأنها “الحلف العربي”، ولم تصبح بنود هذه الاتفاقية قابلة للتنفيذ إلا في شهر آب /1952/ أي بعد ثورة /23/ تموز في مصر عام /1952/.
ولعله من سوء طالع الجامعة أن لحظة الاختبار جاءت سريعاً، لتفضح عجز الجامعة وكساحها، ووهن اتفاقية الدفاع العربي المشترك وسقمها، ففي عام /1956/ وقع العدوان الثلاثي على مصر، ولم تلجأ الجامعة العربية لأية خيارات عسكرية حيال العدوان، ولم تصدر عن دولها مجتمعة أو منفردة أية تحركات أو أنشطة عسكرية دعماً للمجهود الحربي المصري ما خلا سورية، التي فتحت النار على المواقع الصهيونية على طول الجبهة، لاستجرار قوات صهيونية إضافية إلى الجبهة السورية تخفيفاً للضغط عن الجيش المصري الذي يقاتل في سيناء.
كما طلبت سورية السماح لجيشها بدخول الأردن والتمركز على الحدود وفتح جبهتين إضافيتين على العدو وهما الجبهة السورية والجبهة الأردنية، وذلك تضامناً ودعماً لمصر في وجه العدوان، إلا أن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر طلب الاكتفاء بالجبهة السورية فقط، لأن الموقف على الجبهة المصرية مُطَمْئن.

وحين دمّر الطيران الحربي الفرنسي والبريطاني “إذاعة القاهرة”، افتتحت الحكومة السورية على الفور إذاعة تبث من دمشق، أسمتها آنذاك “إذاعة القاهرة من دمشق”، وتتالت الاختبارات تباعاً، لتثبت عقم هذه المنظمة، التي كان تأسيسها رغبة بريطانية، لاستقطاب الدول العربية المستقلة حديثاً، وتأطيرها تحت مظلة منظمة على المقاس الذي لا يضر بالمصالح الغربية، وفي الوقت نفسه يمنع الدول العربية من التفكير بتأسيس منظومة مستقلة، أو تحالف عربي- عربي متضامن، يخدم قضايا العرب بما لا تهوى سفن بريطانيا وأخواتها.
ونستعرض في عجالة أهم الأحداث التي عصفت بمعظم الدول العربية، وكانت تتطلب عملاً عسكرياً فورياً حسب الاتفاقية، دون أن يكون للجامعة العربية والدفاع المشترك أي حضور أو موقف إيجابي تجاهها، ونورد أهمها كما يلي: في 15/7/1958 نزلت القوات الأمريكية على شواطئ لبنان، واحتلت قسماً كبيراً من أراضيه، ومن دون أي تدخل من الجامعة العربية.
وفي شباط /1960/ إبان عهد الوحدة السورية المصرية وقعت على الجبهة السورية معركة التوافيق البطولية، وبدل أن يبادر العرب لمساندة سورية عسكرياً حسب اتفاقية الدفاع المشترك، قامت الدول الرجعية العربية، وفي طليعتها مملكة بني سعود بالتآمر على سورية، وطعنها في الظهر، وتوجت تآمرها بجريمة الانفصال عن مصر في أيلول عام /1961/.
وفي /5 /حزيران عام /1967/ كان العدوان الصهيوني على مصر وسورية والأردن، وقد تحركت بعض التشكيلات العراقية إلى سورية لتشارك في الحرب، فأدركت خواتيمها، ولم تسهم الجامعة بأي دور لدعم الجبهات الثلاث خلال العدوان.
وفي عام /1968/ شن العدو الصهيوني عدواناً واسعاً على قواعد الفدائيين الفلسطينيين في غور الأردن، فيما عرف بمعركة الكرامة، وفي عام /1970/ وقعت مجازر أيلول في الأردن، وحرب الاستنزاف في مصر.
وفي عام /1975/ اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان، ثم في عام /1978/ غزا جيش الاحتلال الصهيوني جنوب لبنان، في عملية أسماها: “عملية الليطاني” وسلخ شريطاً حدودياً من أرض لبنان على طول الحدود مع الكيان الصهيوني، وأقام فيه جيشاً عميلاً أسماه “جيش لبنان الحر”، وفي حزيران عام /1982/ نفّذ العدو الصهيوني عدواناً برياً واسعاً أدى إلى سقوط العاصمة اللبنانية بيروت في براثن الاحتلال الصهيوني، وتنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا بحق الفلسطينيين، ونفّذ العدو عملية عناقيد الغضب ومجزرة “قانا” في الجنوب اللبناني عام /1996/.
وفي آذار عام /2003/ احتل الأمريكيون دولة العراق الشقيق، وفي تموز عام /2006/ شن العدو الصهيوني عدوانه الواسع على الجنوب اللبناني.
وفي عام /2007/ فرضت القوات الصهيونية على قطاع غزة حصاراً خانقاً لا يزال مستمراً حتى اليوم، وفي كانون الأول عام /2008/ شن العدو الصهيوني عدواناً واسع النطاق على قطاع غزة، وفي عام /2012/ شن الجيش الصهيوني عدواناً آخر على قطاع غزة، وفي عام /2014/ كرر عدوانه على القطاع بضربات جوية كثيفة دمّرت البنى التحتية والفوقية وأهلكت الزرع والضرع، ودمّرت البشر والشجر والحجر.
تلك هي جامعتنا العربية، التي تُعتبر أول منظمة إقليمية، سبقت في تأسيسها هيئة الأمم المتحدة وكتلة عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي، لكن أداءها لم يرتق إلى مستوى غيرها من المنظمات الإقليمية والدولية، ولعله من أغرب الغرائب ما حصل في مؤتمر وزراء الداخلية العرب في تونس قبل أيام والذي ترعاه جامعة الدول العربية، والذي اختتم أعماله ببيان يصف حزب الله على أنه “منظمة إرهابية”!.
إن هذا البيان وسواه من المواقف المدانة، ستظل وصمة عار في جبين الجامعة العربية، وبدل أن يدين إرهاب الصهاينة وإرهاب “داعش” وإرهاب “أردوغان” وإرهاب مملكة بني سعود في سورية واليمن وليبيا وسواها، أدان من أذل الصهاينة في أكثر من موقعة، وحرّر جنوب لبنان من الاحتلال، وتصدّى بشهامة عروبية للحرب العالمية التي تتعرض لها سورية، وهو يكافح مع جيش سورية الإرهاب العالمي، الوافد للأراضي السورية نيابة عن العالم. فما هو الضرر الذي لحق بوزراء الداخلية العرب من مواقف حزب الله، حتى يتضامنوا مع الكيان الصهيوني الذي يتخذ موقفاً متطابقاً من حزب الله؟!.
احتفلي يا جامعة العرب بميلادك الواحد والسبعين، ولن يبارك احتفالك من العرب إلّا من كان على شاكلتكِ، احتفلي كما يحلو لعشاقك أن يكون الاحتفال، وأما نحن فاحتفالنا يوم نشهد الجامعة العربية وقد برأت من عجزها وكساحها، وتحررت من ولائها للأجنبي، وصلح شأنها، واستقام عودها، واستقل قرارها، وغدت المصلحة العربية عندها فوق كل المصالح، وقتئذٍ سنقول للجامعة العربية: “عيد ميلاد سعيد يا جامعة العرب”.