إبراهيم طوقان

إبراهيم طوقان

نجم الأسبوع

الاثنين، ٢٣ ديسمبر ٢٠١٣

أعترف، أنني لا أدري حقاً منذ متى وأنا أفكر بالكتابة عن الشاعر الفلسطيني الفذ إبراهيم طوقان الذي كان عمره أشبه بشقائق النعمان التي ما أن تطلع بدواً مع جهجهة الفجر حتى تنير الصباحات بألوانها الساحرات، وما أن ترتفع حرارة الشمس حتى تذوي ثم تذوي حتى تذوب، وهو الذي كان شعره أشبه بخبز أمهاتنا شقرةً، ومعنى، ورائحةً، وأبديةً
كما لا أدري كم أثَّرت بي أحوال الحياة التي عاشها إبراهيم طوقان، وهو الرجل الذي يتحدر من أسرة فلسطينية ثرية جداً، كان الجاه والحضور والمكانة والعلوم والثقافة تراثاً لها، كما لا أدري كم أثر فيَّ شعره فقدمته على غيره من الشعراء الذين جايلوه، والذين لحقوا به، والذين ورثوه في المعاني والمباني والمغاني معاً.
وفي سن المدرسة الابتدائية التحق إبراهيم، في يوم مشهود للأسرة، بمدرسة الرشيدية في نابلس، وقد كانت هذه المدرسة متميزة من غيرها من المدارس النابلسية ليس لأن أولاد الذوات والجاه يدرسون فيها وإنما لأن مناهجها كانت متميزة بعدم خضوعها لتوجهات السلطات العثمانية آنذاك، ومتميزة بأساتذتها الذين درسوا في مصر، ومصر آنذاك كانت معروفة بخروجها على المناهج العثمانية والأخذ بالعلوم والتطورات الحديثة، وتدريس موضوعات مثل الحرية، والديمقراطية، والأحزاب، والاستقلال، والسيادة، والنهضة، والعروبة... الخ.
 
وكان وهو في هذا العمر الطري، عمر ما قبل السنوات الخمس، يذهب وأمه إلى الحمام الخاص بالنساء، وقد كان مجاوراً لبيتهم، ومع أن مجتمع أسرته مجتمع أنثوي، غير أنه وجد في الحمام عالماً من النساء مختلفاً وجديداً، ومناراً بالجمال الأخّاذ، لقد رأى في الحمام، وبعين الطفل، مشهديات الجمال الأنثوي وهو في حراكه الطبيعي، وصخبه غير المعهود، وألفاظه الخبيئات، وسحره الداهش دوماً، وبذلك وطوال سنواته الخمس خزَّن صور الجمال الأنثوي في ذهنه حتى صارت المرأة مرآته في الحياة، فقد كان لغدوهن سحر، ولرواحهن سحر، ولاجتماعهن سحر، ولحديثهن سحر، ولركضهن سحر، ولمناداتهن سحر أيضاً. لا بل رأى، حين امتدَّت به السنوات، أن الشارع المفضي إلى حمام النساء يغدو في أثناء مرورهن على غير الحال التي كان هو عليها كمكان، ويغدو الزمن زمناً أنثوياً صرفاً.
ولعل الحياة كلها غدت بالنسبة لإبراهيم طوقان هي أشبه بذلك الشارع فلولا مرور النساء بها (الحياة) لما صار اسمها حياة، تلك المشهديات والصور والحالات الأنثوية سوف تصير في قصائد إبراهيم طوقان ما أسميه بالجماليات الحسية.
في أعوامه الطفلية الأولى، وبسبب قصر قامته، ونحولة جسده، دافع إبراهيم طوقان عن نفسه بذكائه، وأيَّد حضوره بين التلاميذ أقوياء الأجساد باجتهاده ونبوغه، وحين كبر وصار من أهل التعبير الشعري، جعل من شعره خندقه الذي يدافع من خلاله وعبره عن كل القضايا التي آمن بها، ومن أبرزها قضيتان: الوطن، والمرأة، بل لعلي أجرؤ فأقول: إن النهر الشعري الذي أوجده إبراهيم طوقان، بدا من خلال ضفتين ضافيتين بالحضور والأهمية، وهما: الوطن والمرأة، لأن شعره، في جملته عامة، يكاد لا ينتهي من الموضوع الوطني حتى ينفد إلى عالم المرأة، وما أن ينتهي من عالم المرأة حتى ينفد إلى عوالم الوطن، هذان الاثنان: الوطن والمرأة هما من شغل حياة إبراهيم طوقان بالشواغل الباقيات.
وحين تجلَّى نبوغ إبراهيم طوقان الطفل في اللغة العربية، جاءه أبوه بأشهر أساتذة اللغة العربية في نابلس، واسمه أحمد البسطامي الذي حببه باللغة العربية حتى أولع بها، وكان في طفولته شديد الإنصات للتلاوات المتكررة لآيات القرآن الكريم في بيتهم، والتي كان يضبط مرات ومرات، وهو يجالس مذياع البيت الكبير، وقد وضع رأسه بين راحتيه مستغرقاً في الإنصات العميق، كما أنه حفظ مئات الأبيات من الشعر العربي الأمر الذي أذهل أهله وأستاذه أحمد البسطامي وهو في سنوات عمره الأولى.
وحين انتقل من المدرسة الرشيدية في نابلس بعدما حاز شهادتها، إلى مدرسة المطران في الكلية الإنكليزية في القدس، تفتحت مواهبه أكثر، وبارز أترابه وناف عليهم وذلك لأنه وجد من الثقافة والحرية ما لم يجده في المدرسة الرشيدية في نابلس، ووجد من العلوم ما جعله يحلق في عوالم الجغرافية والتاريخ واللغة والسياسة، ووجد من الأساتذة ما يمكن أن يطلق المرء عليهم لقب العلماء من دون حرج، لقد قضى في رحابة هذه المدرسة أربعة أعوام كان خلالها أسير العلم، وأسير أساتذته الذين فتّحوا ذهنه ووعيه على موضوعة القومية العربية، ومعاني الوطنية، وخصوصاً أستاذه نخلة زريق الذي جعل من دروس العربية، والشعر، والأدب دروساً في التاريخ والجغرافية والهوية الوطنية لأنه عدَّ اللغة هوية تاريخية، وهوية جغرافية، وهوية وطنية.
وحين حاز شهادة الثانوية (المطرانية) في القدس، أرسلته الأسرة إلى الجامعة الأميركية في بيروت فالتحق بها سنة 1923، وهو ابن ثمانية عشر عاماً، ومكث فيها ست سنوات دارساً للآداب حتى نال شهادتها في عام 1929م، وقد أثرت سنوات عيشه في بيروت، ودراسته في الجامعة الأميركية كثيراً في حياته، وتكوين شخصيته الثقافية والوطنية، وكان لرصفائه في الجامعة، ولأصدقائه المثقفين والأدباء الذين تعرف إليهم في بيروت من خلال اجتماعات (دار الندوة) والنقاشات العاصفة التي كانت تدور فيها، كان لكل هذا أكبر الأثر في التكوين الصلد لشخصية إبراهيم طوقان وطنياً وشعرياً.
في بيروت، وفي الجامعة الأميركية، عاش إبراهيم طوقان حياة ثالثة مختلفة عن الحياة الأولى التي عاشها في نابلس (في المدرسة الرشيدية)، وعن الحياة الثانية التي عاشها في القدس (في المدرسة المطرانية في الكلية الإنكليزية)، ذلك لأنه وجد مجتمعاً ثقافياً آخر في بيروت، وحياة اجتماعية من نوع لم يخبره قبلاً، أنها حياة بلا عبوس أو تجهم أو قيود أو وصايا، حياة منفتحة على الحرية التي تشق الدروب ليس على الأرض فقط بل داخل النفوس والأرواح معاً، في هذه الأثناء تعرف إلى عدد كبير من المثقفين والأدباء والدارسين والطلبة المتميزين، لكن ملازمته الشديدة كانت لصديقين ظلَّ طوال حياته يلهج باسميهما هما: عمر فروخ، أستاذ التاريخ ذائع الصيت والشهرة، ووجيه البارودي الشاعر السوري المعروف، وكلاهما كانا دارسين في الجامعة الأميركية أولهما يدرس علوم التاريخ، وثانيهما يدرس علوم الطب.
وقد تميز إبراهيم طوقان بين أقرانه آنذاك بالحس المرهف، والإنصات العميق، والصخب الشديد، والثقافة الراجحة، وقبوله على صداقة النساء قبول من عرف الدهشة والسحر والجمال والعاطفة والرقة واللطف عند المرأة، كما تميَّز بالخيال المحلق الذي يقتطع الصور الحسية من عالم الغيوم، والطيور، والنبات، والماء، والألوان، واللطف بعيد المنال، وتميَّز ثالثاً بالبصيرة النفّاذة إلى الماورائيات واستكناه المضمر والمحجوب والمستبطن طلباً للمكاشفة الباعثة على الصلادة والمكنة والحضور السامي.
بيروت كانت ثالث المدن العربية التي مست روح إبراهيم طوقان بجاذبيتها الساحرة، ولعلها هي المدينة التي أبدت له المرأة حيزاً مستقلاً، وكائناً متفرداً بعدما كان ينظر إلى المرأة وكأنها نبت من نباتات الطبيعة، وهذه النظرة هي التي وسمت بعض قصائده بالعذرية، لأنه رأى الطبيعة في المرأة، ورأى المرأة في الطبيعة، ولم ينظر إليها ككائن حسي إلا في المرحلة البيروتية لأن فورة الشعر تطلبت تأييداً ليس من الصحف والمجلات والأمسيات وأنشطة الجامعة الأميركية فحسب، وإنما تطلبت تأييداً من المرأة بيت الجمال وعنوانه، ومن المرأة ساحرة الحياة في مرحلة الشباب الدفوق، ومن المرأة سيدة اللطف والأناقة والقيافة السلوكية، حدث ذلك حين تعرف إلى الجميلة ماريا صفوري التي ملكت عليه خطوه، وأنفاسه، وروحه، وشعره، وبوحه العلني.
لقد رأى في (ماريا صفوري) مرآة الحياة ودربها وخليجها الذي يهفو قلبه إليه، والجمال الذي شققه خياله، فهي امرأة عالية القوام، بديعة الهندام، مشرقة العينين، صباحية الابتسام، غريدة إن حكت، قاتلة إن باحت، مدينة تمشي على قدمين؛ مدينة لها بوابتها ومفتاحها وأسوارها، امرأة زينة لها وجه وردي ندي على الدوام! لكم عذّبته في العتبات الأولى من رحلة الحب، ولكم أدمت قلبه، ولكم ساهرته طيفاً عصياً على الدنو، لكنها، وحين رأته في صورته الحقيقية، أعني في نبوغه، وشعره، وسلوكه، وحبه الوحشي لها، قاربته واستمعت إليه إلى أن أنست إليه بعد طول حذر وحرص وشرود وخوف، فبدت له مثل طير لا يدري متى ستفرّ من بين يديه! وحين فاتحها بالزواج جوبه بروافض لا يد له فيها مثلما لا يد لها فيها أيضاً، فالديانة والطبقة والتربية الاجتماعية حالت بينهما فلم يصل أحدهما إلى الآخر، ولم يصلا معاً إلى الغاية المهدوفة (الزواج)، لكن كل هذا لم يقطع حبال العلاقة التي نسجها قلبان أحدهما يدق لأجل الآخر فقط، قلبان لم ينقش عليهما سوى اسمين، ماريا وإبراهيم، وحين تزوجت ماريا كان إبراهيم يطير إليها حيث هي سكناها، ليس لشيء سوى أن يراها خفية عن الناس وعنها، ولم تكن تدري ماريا أن إبراهيم جاءها مرات ومرات، ومن دون أن يخبرها، لكي يراها، ولكم ذهل، في إحدى المرات، حين رآها حاملاً تمشي في السوق مثل أوزة شديدة البياض، شديدة الرفعة، موزونة الخطو، كاد، وهو يماشيها عن بعد، أن يصطدم بها، لأن مغناطيسية الروح جذبته نحوها، إلى خطوها تماماً فكاد أحدهما يعثر بالثاني لولا الحياء العفيف! ولم تعرفه أيضاً.
لقد ظلت ماريا صفوري المرأة الوحيدة التي بنت عشها داخل صدره، وداخل قصيدته، وهي التي جعلته يعرف عالم المرأة معرفة الأرض للمطر شوقاً، ومعرفة الأنهار للقرى مؤانسة، ومعرفة الليالي للقناديل جهراً بالسهر. ولهذا ليست من قصيدة غزلية في ديوان إبراهيم طوقان إلا وروح ماريا صفوري تجول فيها جولان الخضرة في الغابات العوابي.
وما من حضور أنثوي في قصائده إلا بسبب حضور ماريا صفوري المتكاثر كأضواء الفجر في ثنايا روحه، هي من كان سبب قصيده الأنثوي، وإليها تنتسب روح العذرية والرومانسية التي تلف قصيده الغزلي طُراً.
وحين غادر إبراهيم طوقان بيروت في عام 1929م، عاد إلى نابلس ليدرّس في المدرسة الرشيدية، ولم يقضِ فيها سوى عام دراسي واحد، ثم عاد إلى بيروت، لكأنه ترك قلبه فيها، ليدرس في الجامعة الأميركية سنتين من عام 1931 إلى عام 1933، لكن الأحوال والظروف تعاونت عليه واجتمعت، فتثاقل عليه جسده النحيل بسبب الأمراض التي تناهبته، وفي رأسها داء المعدة الذي أتعبه إلى آخر يوم في حياته، لذلك عاد إلى نابلس ليدرِّس في كلية النجاح لكنه لم يستمر في حقل التعليم سوى أشهر، لذلك وبسبب مرضه عين في وظيفة إدارية تابعة لمصلحة مياه مدينة نابلس، وفي عام 1936 عين مديراً للقسم العربي في إذاعة القدس، ثم رُقي فعين مديراً للبرامج العربية، وفي هذه الفترة أبدى إبراهيم طوقان من الوطنية ما جعله مثالاً للإخلاص في مواجهة البرامج الإنكليزية والتوجهات الصهيونية، فقد حشد طاقاته الثقافية والأدبية والشعرية والتاريخية كلها من أجل الحديث عن فلسطين الجغرافية والسياسية والثقافية والتاريخية والبشرية حديث أمكنة، وأزمنة، وأعلام، وموضوعات، وقيم، فقد كتب التمثيليات المسرحية، والمقطوعات الغنائية، والخواطر، والسير الذاتية لأعلام فلسطين، وقدَّم الحادثات والأحداث الفلسطينية بوصفها تاريخاً وطنياً، كما قدَّم أخبار الكتب والمدارس والمناهج التربوية، وأحوال الناس الاجتماعية كما أذاع الأناشيد الوطنية، والقصائد الموثبات من أمثال قصيدته (الثلاثاء الحمراء) التي كتبها عام 1930 في إثر إعدام المناضلين الفلسطينيين الثلاثة: عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي، تلك القصيدة التي أطارت صواب السلطات الإنكليزية فغضبت عليه، لكل ذلك، ولأنه جعل من الإذاعة الفلسطينية في القدس بيتاً لبث الروح الوطنية، والتوعية والتبصر بكل ما يفعله الإنكليز والصهاينة.. أقالوه من عمله سنة 1940.
وقد كان ذلك من الأمور الداويات في مدينة القدس، وقد عاضدته ووقفت إلى جانبه جلُّ الشخصيات الفلسطينية على اختلاف مشاربها الثقافية والتربوية والسياسية والاجتماعية، وعلى إثر ذلك وجهت إليه دعوة من العراق لكي يأتي إلى بغداد فيكون أحد أساتذة مدرسة دور المعلمين فيها، وهذا ما أثلج صدره، وأنساه قهره، فذهب إلى بغداد محمولاً على كفّ وطنية أنسته أيضاً أمراضه الجسدية والنفسية معاً، لكنه، ويا للأسف، ما أن حلَّ في بغداد حتى اشتدَّ عليه المرض أكثر فأكثر، لذلك بالكاد أكمل عامه الدراسي الأول في دار المعلمين العراقية، ثم عاد إلى فلسطين إلى مسقط رأسه ليموت في نابلس بعد أيام فقط من عودته سنة 1941، وليس له من العمر سوى ستٍ وثلاثين سنة، وهنا يبدو أن نحولة الجسد، والذكاء المفرط، والطموح الوطني أمور ثلاثة قضت على إبراهيم طوقان، ففحولة الجسد فتكت بها الأمراض، والذكاء المفرط عصف بالجسد تعباً ومساهرة وأرقاً وجولاناً في عالم الخيال، والطموح الوطني يحاول أكثر من طاقته لكي يحفر اسمه نقشاً في لوح صخري اسمه التاريخ الوطني الفلسطيني، وهذا الأمر الثالث الذي يتمثل في وطنية إبراهيم طوقان، هو الأمر الأكثر خطورة وتأثيراً لأن الروح الوطنية التي تحلَّى بها إبراهيم طوقان كانت روحاً شاملة ليست في مواجهة الإنكليز والصهاينة وحدهم، وإنما كانت شاملة ومواجهة لكل سماسرة الحال الوطنية الفلسطينية هؤلاء الذين أفسدوا الحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية، والأخلاقية! إن ما حمله إبراهيم طوقان على كتفيه من ثقل وطني أودى به لأنه كان يقاوم عدوين شرسين أحدهما خارجي متعدد الرؤوس، وثانيهما داخلي متعدد الرؤوس أيضاً.
ولكي أكون مع القارئ الكريم الذي حيل بينه وبين ديوان إبراهيم طوقان المطبوع مرات عدة، أولاها كانت عام 1955، فإنني سأقدم بعضاً من شعره وفي مجال من مجالين اثنين هما جوهر شعره وشاعريته، وجوهر روحه ورغائبه، وأعني بهما: الوطن والمرأة، سأترك ما قاله في المرأة إلى وقت آخر وأقدم شيئاً عن ما قاله عن الوطن، فالوطن عنده الذي يتمظهر أرضاً، وتاريخاً، ومدناً وقرى، وعادات وتقاليد، وثقافةً وهويةً، وبشراً، كان شغله الشاغل، وهمه الأهم، ورغيبته الأبدى لكي يبقى سالماً مُعافى من أمراض الاستعمار الإنكليزي وأكاذيب الصهاينة ودعاويهم الزائفة، ها هو ذا يقول عن بعض ساسة فلسطين آنذاك، وقد كانوا متنفذين وأصحاب سطوة، وهم في الحقيقة ما كانوا سوى سماسرة ودلالين ومخبرين، وساسة اللحظات الشيطانية.
وطني مبتلى بعصبة (دلالين)
لا يتقون فيه اللـه
في ثياب تُريك عزاً ولكن
حشوها الذل والرياء شذاها
ووجوه صفيقة ليس تندى
بجلود مدبوغة تغشاها
لهذا، وبعد هذه المكاشفة والمجاهرة بأولئك السماسرة الكذبة، ينادي من تقع عليه المسؤولية ليتخلص منهم نسفاً من الجذور، أنه ينادي الشعب، يسأله أن يدع التأوه والحزن، وأن ينهض، فهو وحده القادر على تخليص الزمن والأرض والهوية من هذا النبت الشيطاني:
أمسيت يا مسكين عمرك بالتأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليدين: حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنت، فمن يقوم به إذن؟!
ويؤكد على دور الشعب في الخلاص من كل الشرور التي جاءت بها عصي الخارج والداخل، وألا يستسلم أو يقعد للبكاء والعويل.
كفكف دموعك ليس ينفعك البكاءُ ولا العويل
وانهض ولا تشك الزمان فما شكا إلا الكسول
واسلك بهمتك السبيل، ولا تقل كيف السبيل
ما ضلَّ ذو أمل سعى يوماً وحكمته الدليل
كلا ولا خاب امرؤ يوماً ومقصده نبيل
ويكاشف إبراهيم طوقان كل من أعمته أحداث البلاد الفلسطينية، وحادثاتها الجائرات، فيحدد أعداء الوطن بهذين الإثنين: العدو الداخلي، والعدو الخارجي، وبهاتين القوتين: القوة الغاشمة، والقوة الناعمة.
لنا خصمان: ذو حول وطول
وآخر ذو احتيال واقتناص
تواصوا بينهم فأتى وبالاً
وإذلالاً لنا ذاك التواصي
مناهجُ للإبادة واضحاتٌ
وبالحسنى تنفذّ والرصاص
لقد مضى غسان كنفاني في درب إبراهيم طوقان الذي ماثله في العمر المعاش حين تقفاه في الفكر والوطنية والإبداع قائلاً عن الفدائيين: إنهم رسل الحاضر إلى المستقبل، إنهم بناة المستقبل، بناة الحياة، وليس من أوراق اعتماد لهم سوى خطواتهم، ودمائهم، وأشواقهم الفلسطينية، لقد مات إبراهيم طوقان الشاعر، والعاشق، والوطني.. وليس في لهاته سوى نشيده الخالد: موطني موطني!