عندما يتخذ القرار الانتحار.. محاكمة خاطئة للواقع والتحديات.. وأحكام مشفوعة بالمعاناة والاكتئاب

عندما يتخذ القرار الانتحار.. محاكمة خاطئة للواقع والتحديات.. وأحكام مشفوعة بالمعاناة والاكتئاب

أخبار سورية

الأربعاء، ٣١ يوليو ٢٠١٩

لم تبال خلود، الفتاة التي حاولت الانتحار أكثر من مرة، بالأسئلة التي طرحت عليها لمعرفة أسباب إقدامها على الانتحار، وبعد جهد كبير تكلمت فكانت غصة في القلب لشابة في عمر الزهور لم تعد ترى من الحياة سوى شواهد المقابر، وقالت إنها تفضّل الموت على الزواج من كهل كبير إرضاء لأسرتها، وتخفيف نفقات حياتها، فكان اختيار الموت مرجحاً عندها، بعكس غيرها ممن حاول الانتحار سواء لفشل ما، أو أنهى حياته لأسباب مختلفة، فلماذا ازدادت هذه الظاهرة؟ وما هي مفاعيل علاجها؟ وما هي الإجراءات التي اتخذت للحيلولة دون انتشارها بشكل أوسع، أسئلة تتطلب الإجابة؟.
 
أسباب
 
الدكتورة أمل شكو، مديرة الصحة النفسية في وزارة الصحة، بيّنت أن الانتحار ظاهرة مرضية تقسم إلى جزأين: الأول هو الانتحار غير المباشر، ومثال ذلك الأشخاص المصابون بأمراض مزمنة أو مستعصية، ولا يتابعون علاجهم بشكل منتظم، والمدمنون بشكل عام، خصوصاً مدمني المخدرات، فهؤلاء يتسبب المخدر بفقدانهم التحكم، وبالتالي يقدمون على إنهاء حياتهم دون أي وعي أو شعور بالألم، أما الانتحار المباشر فهو إنهاء الحياة بطريقة من الطرق “قتل النفس” وهو التعريف الأقرب للانتحار، ومن أهم أسباب الانتحار معاناة المريض من الاضطراب النفسي والاكتئاب، فقد أثبتت الدراسات أن نحو 15% من المصابين بالاكتئاب يقدمون على الانتحار، وتزداد الرغبة عندهم للقيام به، كما أن معاناة اضطراب الشدة بعد “الرض” من مسببات الانتحار المنتشرة، حيث يتعرّض المنتحر لحادث قد يغير مسار حياته بالشكل السلبي كفقدان أحد الأطراف، أو الإصابة بعاهة دائمة، أو فقدان أحد الوالدين، فيؤدي شعوره بالعجز إلى قيامه بإنهاء حياته، ويعتبر الهذيان أو الإصابة بهلاوس واضطرابات نفسية من مسببات الانتحار.
 
وقاية
 
وترى شكو أن أهم طرق الوقاية من ظاهرة الانتحار دراسة الشخص إذا كانت لديه محاولات انتحار سابقة، وهنا يجب إخضاع المريض للعلاج النفسي، ومتابعته بشكل دقيق، كما يجب العناية بالأطفال المراهقين، لأن نسب الانتحار بينهم تكون عالية مقارنة مع غيرهم لعدم وجود نضج كاف، وابتعاد الأهل عن أبنائهم، والإدمان على الألعاب الالكترونية مؤخراً.
 
وتؤكد مديرة الصحة النفسية في وزارة الصحة أن الحملات الإعلامية للوقاية من ظاهرة الانتحار أو مسبباتها كمكافحة المخدرات، وبيان نتائجها السلبية على المجتمع، من أهم العوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار لتخفيف هذه الظاهرة، كما أن مراجعة الأطباء والمعالجين النفسيين في الحالات التي تستدعي ذلك لها أثر كبير في تغيير تفكير الأشخاص الذين يقررون الانتحار أو يقدمون عليه، مبيّنة أن مديرية الصحة النفسية تقوم بإجراء دورات وأنشطة تعمل على رأب الفجوة للأطباء في تعزيز دور الصحة النفسية في الصحة العامة، ونشرها عند الكوادر الصحية للمساعدة على اكتشاف الحالات التي تحتاج إلى رعاية نفسية، ومعالجتها لمنع تطورها إلى مرحلة محاولة الانتحار.
 
إحصائية
 
بيّنت إحصاءات إدارة العمليات في وزارة الداخلية أن عدد حالات الانتحار التي تم تسجيلها في سورية في عام 2018 بلغت 125 حالة موزعة على المحافظات كالتالي: دمشق 18 حالة، ريف دمشق 21 حالة، درعا 3 حالات، السويداء 15 حالة، حمص 6 حالات، حماة 2 حالة، اللاذقية 16 حالة، طرطوس 11 حالة، حلب 25 حالة، دير الزور حالة واحدة، الحسكة 5 حالات، القنيطرة حالة واحدة، ونلاحظ أن محافظتي حلب وريف دمشق كانتا صاحبتي الحصة الكبرى فيها، كما بلغ عدد حالات الانتحار لهذا العام حتى تاريخ 30/6/2019 نحو 64 حالة موزعة على المحافظات كالتالي: دمشق وطرطوس 7 حالات لكل منهما، ريف دمشق 15 حالة، السويداء 7 حالات، حمص 4 حالات، وحماة ودرعا 4 حالات لكل منهما، واللاذقية ثلاث حالات، وحلب 13 حالة، مع بقاء أكبر عدد لحالات الانتحار في محافظتي حلب وريف دمشق، علماً أن سورية من أقل الدول التي توجد فيها حالات انتحار في المنطقة العربية.
 
أرقام غير دقيقة
 
ويرى د. بسام الحايك، المدير العام لمشفى ابن خلدون للأمراض النفسية والعقلية بحلب، أن عدد الحالات التي تم تسجيلها لا تعكس الواقع إطلاقاً، وأن عدد محاولات الانتحار أسبوعياً في محافظة حلب يتخطى 100 حالة يتم إنقاذ أغلبها، وأن أكبر نسبة محاولات انتحار تتم عن طريق تناول الأدوية والعقاقير، وتتم معالجة أصحاب هذه الحالات، فيما عدا الحالات التي يتم التكتم عليها، كاشفاً أن الظروف الأمنية التي شهدتها سورية كان لها الدور الرئيسي في ازدياد محاولات الانتحار نتيجة ما مر على الناس، خصوصاً ممن تعرّضوا لسيطرة المجموعات الإرهابية كالبنات اللواتي تعرّضن للضغوط الجسدية والجنسية، والأطفال الذين فقدوا أهاليهم في الحرب، وتبنتهم هذه العصابات بفكرها المتوحش، إضافة إلى ضغوط الشدة النفسية نتيجة الفقد.
 
وبيّن الحايك أن محاولات الانتحار التي تتم تنجح نسبها عند الشباب نتيجة استخدام أدوات تنهي الحياة مثل الأسلحة النارية، أو إلقاء النفس من علو شاهق، أو غيره، بينما نرى أن أغلب الحالات عند البنات تتم عبر تناول الأدوية والعقاقير، خصوصاً مع فترة الحرب التي شهدت أعداداً كبيرة تراجع المشافي للعلاج، حيث بلغت أكثر من 800 حالة شهرية مصابة بالاكتئاب والقلق والصدمات النفسية، ولا يجوز إغفال أعداد الأطفال التي راجعت المشفى نتيجة الظروف التي تم ذكرها، والتي بلغ عددها نحو 4000 حالة، سواء عن طريق الأهل، أو عن طريق القضاء “محكمة الأحداث”، مع الإشارة إلى الدور الكبير الذي يلعبه الكادر الطبي في المشفى لتأمين العلاج لهذه الأعداد في ظل النقص الكبير في الأدوية المطلوبة نتيجة الحصار الذي تعرّضت له سورية.
 
إجراءات
 
ترى الباحثة الاجتماعية أسمهان زهيرة أن تزايد محاولات الانتحار دليل واضح على وجود ثغرات في الحالة الاجتماعية في سورية، وأن هذه البيئة تلعب الدور الهام في الوصول إلى مرحلة الانتحار من عدمه، وعلى رأسها العلاقات الأسرية، والتفكك الذي يشوبها، إضافة إلى مشاكل الإدمان على اختلافه، وخصوصاً إدمان الألعاب الالكترونية التي باتت ظاهرة يجب التعامل معها بشكل علمي مدروس لأنها ساهمت في العديد من محاولات الانتحار، كما أن ابتعاد الأسرة عن الأبناء في مرحلة البلوغ، ولجوء هؤلاء الأطفال إلى أقرانهم لحل مشاكلهم، لن يؤدي بهم إلا إلى طرق مسدودة نتيجة انعدام الخبرة، والنظرة القاصرة، وقد انتشرت مؤخراً بين أوساط المراهقين على وجه الخصوص ظاهرة إيذاء الذات “التشطيب”، وترك ندوب على الجسم في محاولة لاستقطاب الاهتمام، وهناك عدة أسباب أساسية تلعب دوراً مهماً في لجوء الشخص إلى الانتحار مثل الفشل العاطفي، والعادات والتقاليد، والوضع الاقتصادي، وغيرها من العوامل.
 
جهود مشتركة
 
يؤكد الباحث النفسي حسام ناصر أن فكرة الانتحار عندما تطرق خيال الشخص المريض تبدأ بالنمو وتكبر حتى تبلغ مرحلة اتخاذ القرار، وهنا يجب أن تتوحد الجهود وتتضافر للقضاء على هذه الظاهرة، أو تخفيفها بالحد الأدنى نظراً لخطورتها على المجتمع، ويجب أن تنطلق الجهود من الخلية الأصغر وهي العائلة لتنمو وتكبر مع الدوائر الرسمية صاحبة القرار لوضع خطة على المستوى الوطني لمكافحة هذه الظاهرة الشاذة عبر حملات دعائية وإعلانية في مختلف الوسائل الإعلامية، وإقامة ندوات تعريفية بهذه الظاهرة، وتشجيع مراجعة المعالجين النفسيين، وتغيير الصورة المرافقة لزيارتهم وفق العادات والتقاليد بأنهم لا يملكون العقل “مجانين”.
 
من الآخر
 
ومع علم خلود أن ظاهرة الانتحار من الظواهر الشاذة والغريبة عن قيم مجتمعنا السوري، فإنها حاولت أكثر من مرة في ظل غياب الناصح الأمين فهل سنرى جهوداً مختلفة لمكافحة هذه الظاهرة التي تحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء عليها لتشمل مختلف محافظات القطر، وهنا يجب الانتباه إلى الانتشار الكبير دون غيره في محافظتي حلب وريف دمشق، ومعرفة الأسباب ومعالجتها، علماً أن معظم السبل بمكافحة هذه الظاهرة تصب في خانة الوعي النفسي، والاهتمام الأكبر بهذه الشريحة.
 
مرهف هرموش-البعث