الحلم بالخوف

الحلم بالخوف

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٣٠ أبريل ٢٠١٩

تنوع الشعوب وألوانها يظهرها حسب نوعية ثقافتها أولاً، وتديّنها ثانياً، وطموحها الذي يتعلق بإمكاناتها وإرادتها ثالثاً. نوع يحلم ويحوّل حلمه إلى واقع، ونوع يكافح بكل ما أوتي من قوى، كي يصل إلى تحقيق حلمه، ونوع يكتفي بالبقاء حيث هو صورة بلا معنى، وجوهر بلا فاعلية. الأول يعرف طريقه، يسير عليه، لا يعرف سوى هدفه، والثاني يقف عند كل مانع طبيعي أو اصطناعي، والثالث يحاور نفسه قائلاً: لماذا المجازفة؟ وهناك بعد كل هؤلاء نوع رابع، لا يريد أن يفكر، ولا يعمل، بل يحتاج إلى الآخر ليفكر عنه، ويرسم عنه كل شيء، ويقول له سِرْ من هنا، وتوقف هناك، أي إنه لا يمتلك أمره، ولا يسيطر على مقدراته.

الشعب الذي يفقد ثقته بقدراته وبفكر وهمّة أبنائه، لا شك أنه لا يستحق الحضور، فنراه مقهوراً وذليلاً، كلما تناهبته الخطوب، واشترك في تأييد أخطائه نتاج اختلاط أوراقه وتراكم الضغوط على وجوده، تكون معيشته مضطربة، وأنفاسه مضغوطة، وأعصابه محترقة أو مهترئة، ويشعر بالفجوات العلمية والرقمية، فكيف به يقضي على أمّيته الفكرية والرقمية وبحثه الدائم عن قدراته على التعامل الواقعي مع التحديات الظاهرة للعيان، والمتمثلة في التباين على نطاقه الجغرافي الواسع والمتداخل بين الماضي والحاضر، بين فهمه للتخلف وقبوله للحداثة، بين خدماته التي يجب أن تتوزع بين أبناء شعبه، والندرة التي تسعى لاستمرار بقائه متخلفاً، بين الالتزام بتحقيق الأهداف الرئيسة الشاملة، والمبادرات الضيّقة.

كيف بنا نمتلك التحديات، نصنفها، نطرحها، نفرضها على شعبنا؟ وكيف بنا نختار أهدافنا؟ مؤكد أننا نواجه حروباً ضروساً ضد تطورنا، وعلينا أن نذهب عكس هذا التيار، لأن تصنيف الشعب والأفراد يهدف إلى تصفيتها عبر رصد الآراء ودراسة ردّات الأفعال، فهذا متشدّد، وذاك ليّن من أقصى اليسار إلى آخر نقطة في اليمين، إيديولوجياً، دينياً، ديماغوجياً، سفسطائياً، وبالتالي فإن التقسيمات تسهل عملية تضليل الشعوب، ومن ثم قهرها، أو غزوها، وكلما تراكمت الهموم في النفس البشرية، تموت بطيئاً أو سريعاً بشكل مفاجئ.

إن أخطر أنواع الأحلام الحلم بالخوف، فكيف به إذا عاشه في اليقظة؟ ولذلك يكون أي حلم يحياه الإنسان، لا يقارن بحلم الأمان والعدالة والتنمية الاقتصادية، ناهيك عن الحلم بالحب والإحساس بقيمه.

ماذا تعني له الحرية إن لم ترافقها القيم التي تدعو للبناء والإعمار والإيمان بهما تحت مظلة القانون، فميزة الحرية أن تقضي على شِرعة الغاب وتهذيب النفوس وإشاعة العدالة، ما يأخذ بتفوقها على باقي المخلوقات، لأن المنطق يتفق على أن العداء يكون على الأخطاء والحقوق، لا على الأشخاص، ووسط غابة من التحليل السياسي والاقتصادي، يتنطع الكثيرون، وهم منقسمون إلى مع ومغرّق في التبعية وعدم قابليته لتقبّل أي نقد أو اعتراف بأن هناك خطيئة دائماً تشير إلى أن لا كمال، وتضاد يريد السطو على كل شيء موغل في النقد، لا يرى بارقة، وطبيعة الحياة مركبة بين النجاح والفشل، وهي محفورة في تلافيف العقل البشري، وسلوكه الذي يزعج المتمردين منه، ويغضب المعترض على هذا السلوك وإشاراته التي تقول (ليس من غضب بلا سبب) والسبب مؤكد أنه الخطيئة المفقِدة لجزء من عملية ناجحة أو كلية.

العقل يغضب من عقل الآخر، أي البشر منقسمون ضد بعضهم، من يصنفهم أتقياء أنبياء، رسلاً، خلفاء، ساسة، وإلى غير ذلك، العقل البشري من يحولهم إلى شياطين وكفرة وملحدين ومضطهدين معارضين وموالين أعداء وأصدقاء، العقل البشري لا غيره من كل ما ندعيه وننسبه إلى السماء، أو ما تحت الأرض، لأنه حامل لمنظومة الاستدلال، يبرئ نفسه، ويتهم غيره، والعكس ينطبق إلى ذلك، وكلما أنجز العقل تكاثره، حدث انقسامه، لأن مساحة التخيّل تغدو أضيق، وكلما ضاقت نما العدوان وتوسعت أهدافه، فالشعوب ألوان تحدد منطقته، الظاهر منها والموسوم بها، فيعرف من أي قارة، ومن ثم تحدد جغرافيته، يعتقد سواد الملونين أن أسلوب رفاه البيض في عالم الشمال برمته، يشكل الأحلام والجذب لأفكارهم وأحلامهم، التي تسعى لتطوير ذاتها وحمايتها من العوز والفقر، حتى ساكنوه والمتأقلمون معه أخذت المعضلات تخترق وجودهم، هذا يأخذ بالبشرية لطرح العديد من الأسئلة حول تعرضها لهجمات شرسة أطلق عليها قوى الشر والإرهاب، من أجل إشاعة الفوضى وإحداث انفلاتات أمنية، تزهق من خلالها أرواحاً بريئة، وتصيب أجساداً حيوية بإرادة عطبها وإخراجها من سباق الحياة الطبيعية، لذلك علينا أن نحلل ماذا يقول الواقع، وأن نجرد الأفكار، كي تغدو مقروءة ومفهومة، ونشير إلى من يحدث ذلك ويمرره، ويطلق عنان القتل والاغتصاب والإرهاب، بدهي أنه بشر مثلنا، حينما نقول إننا بحاجة إلى الإبداع، كي تتحقق الأحلام، ويفترض أن الإبداع مرتبط بالإنسان، تصقله البيئة والطبيعة في آن، بعد امتلاك نواصي الهدف المنشود إحداثه، أو الوصول إليه.

للأسف توافر النشاط اللاإنساني بكثرة تحت أغطية دينية ولا دينية، فالأخبار تشير إلى نمو العنصريات بشكل سريع على أسس تصنيف الشعوب عرقياً وإثنياً، دينياً وعقائدياً وجغرافياً، وكم نحن اليوم بحاجة إلى ثورات فكرية تجدد في الرؤى السياسية المسؤولة الرئيسة عن وحدة المجتمعات، لأن الأفكار التي أنجبت النازية والفاشية والشوفينية بنيت من فكرة فرز المجتمعات حسب العرق واللون، والظلم الاجتماعي أخذ يخنق المجتمعات بشكل أكثر من منظم، وبشكل علني، بعد أن كان خفياً.

أين نحن من استلهام العبر التي نعبر بها من الواقع إلى المستقبل؟ وذلك يتجسد عبر أحلام ينبغي أن تتحقق بموجب قرارات تنبع من حاجات حقيقية، تسد فراغات مرعبة، ظهرت بين الشعب الواحد، الذي تنوع فكره بين الإيديولوجيات المتنوعة، وتمترس مع حمله إياها خلف طوائفه ومذاهبه وأديانه، وصحيح أن من لا يمتلك إرثاً يصنع إرثاً، لأن المستقبل لمن لا يمتلك إرثاً، إن لم نفهم الإرث فهماً فلسفياً معاصراً، فمؤكد أننا نغرق في دواماته، وأيضاً إدراكنا لأهمية الزمن الذي يشتمل على علامات فارقة، نراها في ملفات إنجازاته ونهضته من كبواته المتلاحقة بحقّ هذه الحياة.

أوَلم يؤن الأوان لتجفيف منابع خطب الكراهية؟ ما معنى الدفاع المضلل والمستميت الممارس بشكل دائم لمنع تقدم التسامح والانفتاح؟ كيف يسمح لتيارات طائفية وإيديولوجية بأن تصول وتجول عبر منابر العالم الحر والمقيّد؟ أوَلم ندرك حتى اللحظة خطورة لغتها وتوجهاتها، وعلى كل الصعد، وبشكل خاص على عقول الأجيال الصاعدة، التي مع ولادة الألفية الثالثة ظهرت لتشهد قوة الصراعات الفكرية والمسلحة؟ على الرغم من أنّ التطور العالمي يسير بخطا لا مثيل لها، متجاوزاً الحضارات التي أخذت بالاندثار، ومعها يتنامى الفقر واللجوء والنزوح والتخبّط الاقتصادي بين الدول الكبيرة، التي تصرّ على اقتسام العالم وفرزه.

هل نشعر نحن معشر البشر بارتياح؟ مؤكدٌ لا، لأن التطور ليس فقط في وسائط التكنولوجيا، إنما في العنصر البشري، الذي يبدع في المادة، ويصرّ على التخلف في الاتجاه الإنساني، أو إبعاده، فالإنسان يشكل الثروة الحقيقية لأي فعل تكنولوجي، كيف بنا نفرزه عن بعضه؟ فالذي يعمل على التخلف إنسان متخلف، مهما بلغت عبقريته.

إنه الخوف الذي أخذ يسيطر على عقول أفراد البشرية، لا ينازعه أي شيء إلا الخوف، خوف من الخوف، الفقر لا يخيف، الغنى والقوة تخيفان الإنسان، فالإنسان وحده المخيف، رغم أنه فريد في هلعه وجزعه، فهو يخيف بقوته وجبروته، ويخيفه الغدر والخيانة، كما يخيفه المجهول إلى أن يعرفه.

د. نبيل طعمة