وحدة المجتمع

وحدة المجتمع

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٧ مايو ٢٠١٩

ينادى بها، ويعلو شأنها لحظة الشعور بأنَّ انهياراً ما قريبٌ حدوثه أو حاصلٌ، وأنَّ تفككه إن لم ينتبه له ناجز، وهذا يصل إليه نتاج أسباب جمّة، أهمها تدهور الطاقة الإبداعية في الأقلية المبدعة، وتقوقع النخب المديرة له على نفسها وانفصالها عنه، ويتطور التشرذم بعد إصابة هذه الندرة بالعقم الفكري والقصور في إبداع الحلول، وتحوّل هؤلاء القلة إلى قوة مسيطرة على المجتمع، الذي يرد عليها بعدوله عن الولاء لها والابتعاد عن السير وراءها، ليتلو هذا تضعضع العلاقة بين الندرة والكثرة، وتسرّب الإشاعة وانتشارها من دون الرد الفاعل عليها، ومن ثمَّ إحداث الشروخ والسقوط فيها.
وكل طاقة مبدعة تطلق فنونها الإيجابية، وتبنيها من أسس تصل بوساطتها لتأدية رسالتها في المجتمع، الذي تتولى الإشراف عليه وقيادته بشكل يليق بأفرادها تنتج، وإذا عجزت عن إنجاز رسالتها، وأصرّت على استخدام النظم البالية القائمة على الضغط ثم الضغط، فمؤكد حدوث الانفلات، ولقد أثبتت التجارب إخفاق وضرر هذه الأساليب، التي يستتبعها تفكك المجتمعات ونظمها، ويجب ألا يرد أيّ انهيار في المجتمع إلى فعل القضاء والقدر، وألا نحمّل سلطات الطبيعة العنيفة أحياناً السبب، وأن نعزوه بعدم القدرة في السيطرة على البيئة، طبيعية كانت أم بشرية، وأيضاً أن نرمي به على الاعتداءات المحيطة، أو على دخلاء من ضمن البيئة، فقبولنا لهذه التفسيرات يعني أننا غير قادرين على إبداع الحلول، وأننا مجتمع يدعو الإله لحمايته، من دون أن يقوم بأي فعل إبداعي، يحميه ويحمي مقوماته.
كلما تنوع المجتمع احتاج إلى الوحدة التي تتماثل مع الجمال الطبيعي، الذي لا يظهر إلا بتنوّع المشهد، ويتوافق تماماً مع وحدة الوجود المسكونة في وحدة الشهود، أي الخالق مع المخلوقات، وصيغة الأب مع الابن، والروح القدس، التي تنتقل إلى شكل الأسرة المتحدة والحياة ومقتضياتها، لنرى من خلالها أنّ فعل الارتقاء لا يصدر من المجموع، وإنما من شخصيات تحمل سمة الندرة المبدعة، كما أن إدراك الله يكون في نهاية المأساة، التي لا تُحمّله إياها من لحظة بدئها، كما أنّ الندم بأبعاده الخيّرة والشريرة ليس مطلقاً، ولا ينبغي أن نندم بعد وقوع الشيء، بل يجب أن تكون البداية الجديدة فعالة إلى حدٍّ كبير، وفكرة الحرب السائدة بأنها السبب الرئيس لانهيار المجتمعات، تكون صحيحة إذا كان المجتمع مع مبدعيه والقائمين عليه في حالة سبات وعدم انتباه وانشغال إداراته بما تجنيه، بعد أن تكون قد وصلت إلى نظرية الإقطاع الحديث، الذي يعتمد تراكم المال والسيطرة به على المجتمع، بعد أن كان أسلوب الإقطاع القديم تراكم الأراضي والسيطرة عليها وعلى المشتغلين بها، هذان الأسلوبان لم ينفعا أي مجتمع، إنما أديا إلى إحباط أي نهضة، وقتل محاولات الإبداع وتجميد أيّ إصلاح ديني أو سياسي أو اقتصادي، بل على العكس، أخذا بتعزيز دور البطولات الفردية المعزّزة دينياً لا اجتماعياً، وفئوياً لا كلياً.
هل نحن مجتمع يمتلك تاريخاً كي نفاخر به؟ ألا يجب أن نعرف التاريخ أولاً؟ هذا التاريخ الذي يقوم من الإبداع والإنجاز الصناعي والزراعي والسياحي، وأهمه الثقافي الدال على تفوقه، أم إننا اكتفينا بالتاريخ الديني، وجعلناه نبراساً لم نقدر على الخروج منه حتى اللحظة؟ بل أكثر من ذلك ندعي التطور المسكون في داخلنا، ماضٍ جله عقيم، لم يعد له أيّ تأثير في حركة المجتمعات المتقدمة أو الباحثة عن التطور.
إنّ أيّ نهضة تقوم بها الندرة المبدعة مسلّم أن يشعر بها المجتمع، فيأخذ بالاندفاع عفوياً لتأييدها والتفاعل معها بقوة وإيمان، وخاصة إن رافقها تفعيل ثقافي وسياسي، حيث يتكون مثلث استثنائي يمنح طاقات مهمة، تؤكد تماسكه، وتمتّن وحدته وقيمه، لا شكّ أنّ أيّ مجتمع يجابه أثناء مسيرته العديد من المشكلات، وتكون متتابعة، وتفرض عليه إيجاد الحلول لها، لأن أيّ تدخل يعني تفاقم المشكلات بحكم اختلاف الثقافات والسياسات، وكل مشكلة تعتبر تحدياً ذاتياً، ليس فقط للمسؤولين عنه، وإنما على أفراده أيضاً، وهذه المشكلات أيضاً تؤدي إلى ظهور تمايز بين أفراده بنسب؛ أي يسقط البعض وينجح الآخر.
هل يمكننا أن نسلم جدلاً بأن انهيار مجتمع يكون لأجل الانهيار، أو أنه نتيجة طبيعية لحجم الخطيئة، بحيث يكون أنَّ لا مفر منه، وهل المشكلات تقوم بذاتها، أم  إن الظروف التي تظهر العطالة الفكرية تؤدي إلى حدوثها؟ لأن وصول أي مجتمع إلى تبادل الخطاب الخشبي لابدَّ أنه آيل للاختراق نتاج رزوحه تحت عبئه الثقيل، الذي يدعو للارتحال، أو للاقتتال، أو للانتهاء في بوتقة التخلف، لأن فقد أي مجتمع لمعاني وجوده، يعني فقده للأشياء التي تدعوه للتعلم، وسواد الأشياء غير القابلة للتعلم، وتحطيم حالة السبات والركود والرضوخ يكون بإعادة بعث المعنويات التي تحثّه على النهوض من جوهره، والإرادة السياسية التي يقع على عاتقها تحفيز هذه المعنويات، وتوفير المناخ الملائم لقيامتها وربط أفرادهم ببعضهم، وصولاً إلى تحقيق حالات انفعالية وجدانية، تحدث عند الإنسان عندما يجد إنساناً آخر متأثراً، فيشعر بذات شعوره، فإذا حصل انتظمت مشاعر الملايين، وشكلت خطاً واحداً إلى حيث السياسة تريد أن يؤدي غرضها.
إن فقدان الحرية الروحية والحرية السياسية يؤدي إلى قتل الثقافة والرابطة الموحدة في أي مجتمع، لذا أعود على بدء، وأقول: إن قوة الندرة تكون كارثية، إن لم توزع قواها بين أبناء مجتمعها، فإذا فعلت فإنها تكون قد حولت إقطاعها المالي إلى اقتصاد اجتماعي خلاق، يؤدي إلى قوة الدولة التي تستند في النتيجة إلى قوة أبنائها مجتمعين، لا على أفرادها الضيقين.
من الممكن تناسي الحقيقة لبعض الوقت، لأن الظروف التي تعقب أي حرب تكون مندفعة عاطفياً، نتاج التأثر بمخرجات الحرب التي تظهر العديد من الأزمات، إلا أن الواقع مع الضرورة يعيدان هؤلاء الأبناء إلى مجتمعهم الأساس، الذي يفخرون به وبأرضهم التي يحيون عليها، فإذا التقطت السياسة هذا الحال، وعملت بجدّ عليه، بعثت في أفكارهم السمو، وحفّزت الأخلاق التي بها وحدها يتم تجاوز أيّ خلل، وإنهاء أكبر الأزمات، لأن بعض السطحيين يعمقون الخلل نتاج اتجارهم وثرائهم ضمن مجريات الحرب، هؤلاء الذين يعتادون سرعة الإثراء، ينشدون استمرار الأزمات، أو يحاولون إطالة أمدها، هنا يضجّ المجتمع، فإن لم تكن المعالجات صادقة وسريعة حدثت التراجعات، ليظهر من جديد الحضور الطائفي والمذهبي والقبلي والعشائري، ما يؤدي إلى الانقسام والفرقة والاقتتال على التاريخ والحاضر والمستقبل.
كلما تخلفت المجتمعات وأُفقرت، نبتت فكرة الانقسام الموءودة في عمق التاريخ وتداعياته، فالعلم والإبداع والفورة الاقتصادية تنتج الجمع الذي يتقوى به، وندرته تؤدي إلى أن تتناهبه الأفكار، وخاصة السيئة منها، لذلك أجدني أقول: إن انهيار أي مجتمع أعزوه إلى مجموعة أسباب سلبية، فانهياره لا يكون بسبب فعل القضاء والقدر بالمعنى الذي ينشده رجال الدين، ولا يمكن اعتباره المسار الطبيعي لعبث الحياة، ولا بعدم القدرة للسيطرة على البيئة الاجتماعية، ولا بالعدوان الغادر، إنما أعزوه إلى الانفلات الأخلاقي مع انفلات سلطة القانون الضابط لها، فأيّ مجتمع ينشد الاستقرار يجب أن يسعى لتحقيق أكبر قدر منه، وهذا لا يتحقق إلا بعد تجاوزه للمشكلات التي لن يحلّ جميعها، لكنّ حلّ بعضها يحقق له الانتصار المؤكد، ومن خلاله تظهر وحدة المجتمع وتعاضده.

د.نبيل طعمة