خيوط الثقة

خيوط الثقة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٤ ديسمبر ٢٠١٩

بين الأفراد أنفسهم وبين الحكومة والحكومات المحيطة، بين الدول القريبة والبعيدة، من يمتنها ويجدلها؟ من يعمل على قطعها أمام ما يجري من الثورات التكنولوجية التي تشهد واقعنا، وتؤثر في عمقه وبين جنباته؟ ناهيكم عن إحاطتها به، تتخطى جدرانه وعمره التاريخي الحديث والقديم، تسقط عليه من الفضاء، وتخرج له من تحت أرضه، تقف أمامه وقطار الزمن يمر منه، أفكار فاشية ونازية تهيمن على سماء الشعوب عبر هطلات أمنية مريبة، تصنف التجمعات البشرية من دون أي إنسانية وتقسمها عنصرياً،  تغلفها تارة بالديني، وأحياناً بالسياسي، تفرزها اقتصادياً إلى طبقات، تدعها تظهر إثنياتها وقومياتها ضمن دعوات للارتقاء العرقي الذي يمايز بين الأعراق والطوائف والإيديولوجيات، وحتى المذاهب، والقصد السيطرة والهيمنة وسياسة فرّق تسد، والغاية أن ينكمش العالم بعد تحوله إلى عوالم، وحصره في دولة أو عرق أو طائفة، والتجربة المثيرة للغاية تقع على خطّ بصرنا.

فقط أمعنوا في النظر لمجريات عالم الجنوب برمته، وأجزم أنه قادم إلى عالم الشمال، من يمتلك الصبر يرَ أن الصراعات لم تعد صراعات حدود، بل صراعات وجود، ولم يعد للوطنية العامة حضور، إنما لسيناريوهات الديمقراطية والدكتاتورية، ومصطلحات الإغراء والإغواء تتصدر المشهد السياسي والاجتماعي المغلف بساحات الدماء والجريمة والبغاء والخوف من الغرق في متاهات التغيّرات المناخية، من ثقب الأوزون إلى تسونامي، وبينهما الحرب البيولوجية المتمثلة في نشر الأمراض الفتاكة بالحيوان والنبات والبشر والجماد وحروب التغيير، بهدف إخضاع الحكومات لمشيئة عالم الشمال، والغرب منه بشكل خاص، هذه التي شهدها العقد الحالي، ويختمها المشهد من هونغ كونغ إلى كراكاس، الذي يرينا حجم انتشار الأسلوب الفاشي الخفي والظاهر، وهذا يدلنا على أن العقل البشري لم يعد يحتمل حمل كله وحتى بعضه، ولم يعد يدرك إلا المال والجشع التدميري والتسلط على الشعوب والدول، رغم أن الأفكار الخلاقة للحفاظ عليه منتشرة، ويجب أن تحظى بالحضور والحبور، لأنها جذابة للحياة، وتحاكي واقع البشرية المسكون في عقلها وأعماقها الرافض للقتل، بما أنها تقدم الابتكار، وقابلة لإحداث التطور عبر التنمية وديمومة استمرارها، لأن توقفها يعني الفشل الذي ينتشر ليقتل الطموح ويدمر الأحلام، فتذهب الناس للاقتتال ولا شيء غيره، وهذا ما ترينا إياه حركة الزمن ودوراته التي تُعلي من شأن الفاشية الفكرية المسيطرة على أنظمة الحكم والسياسة في العالم، رغم تقدم مفهوم العولمة الذي اخترق الكثير من الدول، حيث يرسم مسارات للتكنولوجيا والمبادئ والتجارة، مشكلاً جسوراً بين الماضي والحاضر، يمرّ من خلالها كل شيء،  من دون دراية من الشعوب، فالتكنولوجيا قدمت العولمة على أنها تؤدي إلى وضع العالم في مصير واحد، معتبرة إياه دولةً واحدةً، وهي على تضاد تام من الفاشية، التي تدعو إلى تقوقع العالم وانكماشه ضمن قومياته أو عرقه أو دوله.

 كل ما يجري ويدفع به اليوم يكون على حساب الوطنية، التي يريدون إفناءها لمصلحة الفردية الطائفية والمذهبية والمناطقية، وما تحتاجه اليوم الشعوب فعلاً توافر شخصيات قيادية وطنية، تأخذ شكل الرمز، تصنع تاريخاً حديثاً في أوطانها، تؤدي إلى الانتظام والاستقرار، حتى وإن كان ذلك بالقوة، لأنه ومن دون ذلك يكون الانفلات.

فصناعة تاريخ في التجمعات البشرية يحتاج إلى الانضباط، وإني لأرى أن هذه الأفكار أكثر من مثيرة، لأنها تحاكي توقاً عميقاً في الأعماق الوطنية لرؤية تجسيدات وحدة العلاقة ضمن الدولة بين الأرض وإنسانها، وأهمها وحدة المجتمع وحلول النماء الاقتصادي والاجتماعي المحفزين الرئيسين على نمو الشعور الوطني.

الثورات التكنولوجية ورغم محافظتها على خيوط الثقة بين أفراد المجتمعات إلى حدٍّ ما، إلا أنها شكلت نماذج جديدة وفريدة متعددة الأبعاد في الهجوم والدفاع والمراوغة،  وهنا أقصد أنها أنجزت خصوبات من نوع جديد، بعد أن اخترقت أدق الخصوصيات الإنسانية، وطبعاً معها الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، وغدت قادرة على القضاء على كل شيء، من خلال ما تقدمه من إبهار تمسح به الأفكار، وتقدم بدائل منها، وتعلن أننا أمام مرحلة جديدة من التاريخ، تقدم فيه مصطلحات ومفاهيم قد لا يستطيع أكثر المتابعين فرزها بسبب حدّة التناقضات الفكرية بين عوالم العولمة والسيطرة الفاشية، فهل سيكون الحل في حرب عالمية جديدة، تجسد الهروب إلى الأمام؟ وأعتقد أنها قادمة لا محالة، لأن أحداً لا يعلم اليوم إلى أين تسير السياسة العالمية، والسبب ضياع الأهداف والوجهات الحقيقية لأسباب الحياة.

 خيوط الثقة يجب جدلها لتتحول إلى حبل متين، يكون بين السياسة والاقتصاد أولاً، وثانياً بينها وبين الشعوب، يكمل الحبال الستة المتجسدة في حبل الوريد الدقيق، وحبل السرة أمتنها، وحبل المشنقة الذي ينتظر الخطايا الشنيعة وهو أبشعها، وحبل المودة أوثقها، وحبل الكذب أقصرها، وحبل الاعتصام بالمكون الكلي أقواها.

الحكومات التي تسير مثل السلحفاة، وفي اعتقادها أنها لا تريد القفز مثل الغزلان خوفاً من السقوط في الأشراك أو اصطيادها من بعيد، تقع دائماً في المحظورات، لأن فرضية الإبقاء على الحركة ولو بالحد الأدنى تربك الشعوب العاملة، وبشكل خاص الطبقة الوسطى والفقيرة، بينما تسعد كثيراً هذه الخطوات الطبقة الغنية والمديرة، بحكم ما تجنيه من مكاسب، لذلك ينبغي إجراء مراجعات سريعة، هدفها التخلص من لعنات المواقف الراهنة، التي رافقت لعقد من الزمن ظواهر غريبة، لم يكن للمجتمع يدٌ في وقوعها، وإنما فرضت عليه نتاج ظروف يعلمها فقط القائمون على إدارتها، فالصبر الإستراتيجي له حدود في المنطق العلمي مع سياسة الاقتصاد المقاوم، الذي ينبغي أن يتحول إلى اقتصاد مبادر من خلال الإمساك بمكوناته، لأن جميع حالات الاضطراب تقوم من أجل المال والحكم ومفهوم الجمع وزيادته أو مراكمته، حتى النزاعات الدينية هي نوع من التملك، فالانتساب إلى دين هو نوع من الملكية، وحين يدافعون عنه يدافعون عن ملكيتهم لا عن أفكارهم الاجتماعية الإنسانية، وهنا تكون الطامة الكبرى.

رئيس البلاد يؤكد أن الحلّ في تمتين خيوط الثقة مع مواطنيه الذين يتابعهم بدقة، ويشهد له المتابعون اهتمامه بتفاصيل الحياة الوطنية وغير الوطنية، ولا يألو جهداً في ذلك، حيث تراه في حوارات مع الأعداء قبل الأصدقاء، وعبر منابر الإعلام وغيرها، يلتقي الفاعليات الثقافية والإدارية، يقود الحكومة بين الفينة والأخرى، ويوجه القيادات الحزبية للانخراط بقواعدها، ألا يجب أن يعمل الجميع على شاكلته؟ وهل الإدارات وصلت إلى تحليل منهجه وأسلوبه العملي؟ هل استفادت من مفرداته التي يربطها دائماً إلى شعبه؟ ما معنى هل نجوت وكيف كانت الإجابة المفصلية؟ نجوت مع شعبي الوطني، لأن المستهدف كان الوطن بما فيه، كيف بنا ندافع عن الوطن، ولا نعلي شأنه بأن نكون أولاً، وربما يكون لكل فرد قضية، هل يلتهي بقضيته، أم إنه إذا انتصر للوطن انتصرت قضيته؟

لنكن على شاكلته، ولننسج معه حبل الثقة، ولتكن طبقات المديرين على قدر المسؤوليات الممنوحة لهم، ليجدوا أن المواطن يسبقهم للبناء والدفاع عن الوطن وعنهم، فبهذا وحده فقط نعيد للحياة الوطنية حضورها، وبهذا نتخلص من الفساد والغش والمراوغة اللعينة التي أظهرت التلاعب وعدم الوفاء، وخلقت حالات من الانفلات اللا موضوعي، وصحيح أن المشكلات ترافقها الحلول، إلا أنها كالخطين المتوازيين، والسبب أنه مادامت هناك حياة وبناء هناك مشكلات، فلا الحلول ثابتة، ولا المشكلات منتهية، بحكم الطبيعة الإنسانية المتطورة، التي لا تقف عند حدود، خيوط الثقة تحلل المصطلحات، وتستفيد من الثورات التكنولوجية، وتدرك معاني العولمة، توجد الحلول رغم وجود المشكلات، لكنها تحمي وطناً.

د. نبيل طعمة