النفاق والأكذوبة

النفاق والأكذوبة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٤ يناير ٢٠٢٠

اللذان يعبران بالعقل، لا يضيرانه، إنما يؤثران فيه، ويخرجانه عن مساره، وخاصة تلك التي تخترقه، وتتغلغل فيه، وتستقر في أطوائه، فتهز وجوده اللامادي والمادي في آن.

 هل يرتاب الإنسان بجزأيه لو خلا عقله من خواطر الغرور وملق الآمال وزيف الأقدار والقيم وهواجس التخيل على حمل الهوى والمشيئة ونظائر التعاليل؟ ماذا كان حاله؟ أما كانت لتمتلئ بالكدر والهموم والغم والسوداء؟ وإذا حضر الحق الذي ليس له من ميزان يوزن به سوى ميزانه، فلأنه حامل المتعة وبه احتواؤه.

نرى عنواننا هنا يتقدم الشعر الذي يمثل الشيطان أهم مزيّن جاذب فيه، والسبب لغة الجمال التي تغلف مفرداته، والفرق بينهما أن الشعر يخلد ويمنح مبدعه خلوداً، والنفاق والأكذوبة تنكشفان وتؤديان بحاملهما إلى سقوط اجتماعي وإلى غير رجعة، حيث تصبح سمته التي لا انفصال لها عنه.

إن كل ما يحدث في هذه الحياة يحدث بسبب فعل إرادة إنساني لا علاقة للإله به، المصائب على البشرية لا تتوقف إن لم توجد لها الحلول الناجعة، أسئلة يطرحها العقل المتأمل، وأهمها ما الفائدة التي تجنى من إحداث المصائب التي توقع البشرية في شباكها، إذاً علينا أن نتفكر فيمن يصنعها، وماذا يحصل بعدها؟ وهل نقول إن الإنسان لا يدرك حقيقة ما يجري أثناء مساره الحياتي وإحساسه بالاضطراب ومن ثم الانزعاج، وإن أشد ما يخيف الإنسان يكمن في الفضيلة، لأنها مقنّعة، تسكن عمقه، شهوته تدعوه للانقضاض عليها، وعلى كل شيء إذا أمكن له ذلك، كما هو حال الوجه اللطيف الظاهر على قلب لص خطير، أو يأخذ شكل البريء، بريء يتشبه بالملاك المجنح، حيث أجنحته الساحقة تظهر عن نذل وضيع ونفاق مقيت وكذب أشر، فكيف بنا نبرر كوارثنا ومصائبنا، من دون أن نراجع أنفسنا وأفكارنا وما نقوم به من أعمال، أم إنه يكفي أن نلقي بتبعاتها مباشرة على الآخر المحيط، أو إنها إرادة المكوّن الكلي.

 ألسنا أكثر المجتمعات العالمية تديناً وتمسكاً؟ وفي الوقت ذاته، ألسنا الأكثر هدراً لحقوق بعضنا واستغلالاً وتحرشاً واعتداء ورشوة وغشاً وتلاعباً في بيعنا وإنتاجنا؟ هل ننجو بالصلاة والدعاء؟

إن حكمة التاريخ التي أودعت في إنسانه المؤمن المتأمل كانت الشفافية، وهي في ذاتها حكمة جوانية بالغة الأهمية، وهي تجسد خلاصة آبدة لا تقدر بثمن، تدعو البشرية للبحث عنها واعتمادها بعد استخلاصها ذاتياً وجماعياً، ففيها العبرة لما كان وما سيكون، والتفكر بهذه الحكمة يؤدي إلى إنقاذ الإنسان وتخلصه في حياته من النفاق والأكذوبة المسؤولين عن ظهور الشخصية المزورة إلى حين، طال هذا الحين أو قصر، وانفضاح رخصهما يظهر الفشل الذريع، فهل وصلنا إلى المصارحة التي معها يحدث الانتصار، فالتردد يقتل الفرص، كما الانفعال الذي يفضح النفوس وعدم فعل الأفضل ضمن القدرة على الفعل ظلم لذات الإنسان ولمحيطه، كما أن ادعاء وجود أزمة في الفكر وخاصة العربي يظهر مدى الكذبة الكبرى التي تسكن فيه، والتي تتكون من اعتماد فلسفة النفاق لتبرير حجم التخلف وإخفاء الأمية الفكرية وتغليف كوارثنا ومصائبنا وإرجاع فشلنا إلى إرادة الكلي، وحلفنا باسم الله الباطل بعد أن حذفنا لا تحلفوا، وأنه لو أراد لنا أن نكون غير ذلك لقال (كن) فيكون والقلم وما يسطرون؛ أي ما ينجزون ويتركون من آثار.

الأكذوبة عندما تتغلغل في الفكر وتسيطر عليه يهتز حضوره، وهذا ما ينطبق على أمتنا العربية التي تمزقت وحدتها، وتفشت فيها الخرافة والعرافة والشعوذة والسحر، وتقدمت عليها النظريات الوهمية، وغدت معالجتها لأمورها تخضع للقدرية، وظهرت لبناتها آيلة للسقوط في أي لحظة، فسهل على الأمم الأخرى المتسلحة بالعلم والفلسفة غزونا وإخضاعنا لرؤاهم، فإن لم نتخلَّ عن المنافقة، ونتسلح بالعلم والمعرفة والفنون، ونحول أنفسنا من مستهلكين إلى منتجين يبقَ مصيرنا مرتهناً إلى القدر الذي لا علاقة له بكل ما يحدث لنا، لأننا اعتبرناه شماعة كذبنا على أنفسنا، نرميها من خلاله على الأمم الأخرى، وأنها سبب تخلفنا وتراجعنا وضعفنا، ولو أدركنا أن الأخلاق والعلم يتبناهما العقل، ويجهد لإثبات حضورهما، لكان لا وجود للكذب والنفاق فيه، فالقيم معانٍ مجردة، والعلم بحث يتقدم به الإنسان، ويتجلى ذلك في كيفية توصيف الأشياء، وهذا يرجع إلى دوافع تعود النظر إلى القيمة والقيم المضافة والحاجة إليها، فهذه لا توجد في المجتمعات إلا إذا امتلكت الأهداف والغايات التي تريد أن تصل إليها وتسعى لتحقيقها، فما الغاية من أهدافنا التي وضعنا شعارات رنانة لها؟ لم نصل إليها لأننا لم نعمل من أجل الوصول إليها بجد وجهد، وتساقطت ومازلنا نحلم بها.

للأسف سواد الدول العربية تشربت أكذوبة الأورو أمريكي الصهيوني، واستجابت لدعواته التي أوقعته تحت مظلته، محولة إياها إلى توابع، بعد أن كان ذاك الاستشراق الخادع، وفي حقيقته استكشاف لمكامن المواد الأولية والصناعات المحلية ودراسات وتحليل لثقافات الشعوب ومعتقداتها، وكذلك فعل الغرب بالتاريخ الذي حوله إلى تاريخ توراتي تلمودي، وتشربت شعوبه تلك الأكذوبة الكبرى، وسارت بها من دون عناء البحث أو الاجتهاد، لقد شوهت أكاذيبهم الحقائق محوّلة إياها إلى لا شيء، ولتقدم بديلاً منها لغة خبيثة، غايتها تجهيل المجتمعات العالمية برمتها، فهل أدركنا هذا؟

نعود إلى بدء، نستعرض مساوئ تدوين التاريخ العربي وامتلاءه بالنفاق والأكاذيب واعتماده على القيل والقال، ورفضه قبول أي تطور لاعتباره أن ماضيه مقدس، أمام عالم طوّر كثيراً من أفكاره، حتى المقدس منها يعيد النظر فيه، والسبب التقدم العلمي الهائل الذي وصل إلى تحديد جنس الجنين، وهو حيوان منوي قبل الزواج، ويبحث الآن في سرّ الروح والآية الكريمة القائلة: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، أتوقف معها لأقول: إذا كثر العلم فكيف سيكون حالنا مع المقدس وهو يجري إلى ذلك، وهذا ما عكسه على التاريخ الحديث لعوالمنا العربية، مظهراً تناقضاً مرعباً بين الحقبتين، وقصوراً فاضحاً ومشيناً في إدراك الحقائق ومعرفتها، لتتنازل الأجيال الحديثة عن تلك الأحداث القميئة والمزرية، التي خلت من القيم الرفيعة أو الموضوعية العالية عن جذور الشخصية العربية الخلاقة، فصورت فقط بالحميمية والنخوة والقتال والغنائم والتديّن الأجوف المستند إلى هذه الأفعال، فهل حاولنا إيجاد الجوهر الأصيل لهذه الشخصية؟ لينبثق منه مفهوم عربي أمثل للتاريخ، ويخلق شخصية نوعية ولغة يتعلق بها تؤدي إلى تعلق الآخر به، فعروبة العربي في خطر، وعقائده وأخلاقه في خطر أكبر، إن بقي على ما هو عليه.

من أوصل سواد الفاعلين والمؤثرين من ساسة واقتصاديين وكتّاب وصحافة، ومؤثرين من رجال الدين في المجتمعات، لتكون كما هي عليه الآن من خلال التلاعب والرشوة والغش؟ بالنتيجة النفاق والكذب سمتان رئيستان لفساد المجتمعات والشعوب برمتها، تفسد عندها، ينفصل عنها ملحها، الذي يجسد الأخلاق والصدق والشرف المهني والإنتاجي والإبداعي، هذه المسؤولة عن تطور أي مجتمع بعد أن تتطور أفراده.

أعتقد أن علينا التخلص من الكذب والنفاق كي نصل الواقع، ونشاهد الحقيقة، وإلا فإننا باقون نحيا في عوالم التاريخ القديم والعرافة والنخاسة والتعلق بالمفسرين لا بالإيمان، وبالأوهام والأحلام والآخرة، وسيبقى اسمنا العالم المتخلف لطفاً العالم النامي، وفي حقيقة الأمر عالم الجنوب؛ أي عالم الاستهلاك، فإذا كان البيت العربي المؤطّر لهذه الشخصية مشبعاً بالنفاق والأكاذيب، فطبيعي ألا يكون لديه أي تطور، بل سيبقى مستقبله فيما ينشده ويريده بيد الآخر، يمسك به، محولاً إياه إلى مستسلم وتابع أو متأخر عن الركب، لا يمكن الاعتماد عليه.

 د. نبيل طعمة