الطبيعة الإنسانية

الطبيعة الإنسانية

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٥ أبريل ٢٠٢٠

ترافق الحس السليم إضافة إلى الوعي الفطري يضعان حداً لتمادي الإنسان أولاً على ذاته، معلماً إياها عن حدودها ما لها وما عليها، وثانياً يُغلّ أياديها وأفكارها التي تتمادى على الآخر أو العبث في مجريات الحياة، ويوقف التنابز المسيء من مفردات اللغة، كما يمنع الاتهام والشتائم التي تمس مصائر الأفراد والمجتمع، وصولاً إلى الدولة.

 منطقي أن نرى في هذه الآونة سجالات اقتصادية ودينية، لأن المرء لا يقدر أن ينأى بنفسه لحظة استعراضه للواقع، وحقه أن يسعى للدفاع عن تكوينه منزلاً وأسرةً، ومن خلال تعليم أطفاله ومصدر رزقه وهويته، هذه التي تجسد له دولته ومدينته وقريته وحَيّه، وهذا كله يمثل في مجموعه دولته، لأنها جوهر أشيائه، والضامنة الوحيدة لأمنه وأمانه، فإذا كانت غير موجودة فمن يأخذ مكانها؟ الإقطاع الزراعي أم المالي أم أمراء الطوائف وشيوخ القبائل أم المكونات المذهبية أو الحزبية؟ أي في النتيجة عندما لا تكون الدولة تكون الفوضى أو الاضطراب الدائم، لذلك نرى أن الحس السليم يحقق ويعزز ويحافظ على وحدة الدولة، فإذا تشوه تحركت الوساوس والمساوئ المقيمة في وعي البشرية ولدى أجيالها، لتنجز الخراب، وتعزز التخلف بعد أن توقف التقدم، فالأحاسيس لا تعرف الأعراق، والأديان لا توقفها الحروب أو الخطوب أو الأزمات ولا حتى الأمراض والأوبئة، فإذا تطور هذا الحس الفردي وتحول إلى شعار اجتماعي أظهر الاستقامة بمعناها العلمي، وهنا أتحدث عن أن أي مستقيم لا يحمل هدفاً، فهو آيل إلى الانحناء، أي إلى الانحراف، فإذا لم يكن لديه مسار وهدف يسعى إليه من لحظة الانطلاق فمؤكد أن سقوطه واقع لا محالة.

 أفكار أتطلع لأن تكون جديرة باهتمامكم، أخوض غمارها معكم، فأبناء أمتنا وبشكل خاص أبناء دولتنا غدت مثقلة بالآلام والآثام والانحرافات، وأهمها بميراث الماضي والأجيال الفائتة، وغدا الصراع كبيراً بين العلم والجهل، بين الإيمان والتدين، بين التقدم والتخلف.

 ذهنيات حديثة من الجيل الجديد تطرح أفكاراً خلاقة قابلة للتحول إلى الأشكال المادية المفيدة، تحمل معاني التطور، تريد إدخالها إلى المباني المشيّدة سابقاً من خلال فهم معانيها وأسباب وجودها، إرادتها بناء الأحاسيس السليمة التي تعيد للطبيعة الإنسانية حضورها على أسس الإيمان الحق، لا الاعتماد على التدين المتكون في عقلنا العربي السوري وعقول الأمة، هذا المسكون في الذات البشرية خاصتنا، لأن المراد لمجتمعاتنا ألا تعمل على إنبات أفكارها وإعادة تشكيلها، فالذي تتوارثه وتتناقله لا يسهل التنازل عنه، وبالتالي يسهل اختراق أبعاده الوجدانية، ما يهيئ الفرص لضرب المشاعر والأحاسيس وتدمير الطبيعة الإنسانية بكونه شمولي النشئة.

في فترة ليست بالبعيدة عنا طرحت نظريات عديدة، وتقدمت الفرضيات، وتربعت الأفكار على حواضن العقول، كان هذا مع نيل الأقطار العربية لاستقلالاتها، البعث في المشرق، والاتحاد الاشتراكي في مصر، الوحدة العربية، العروبة والقومية، الديالكتيكية، الشيوعية والرأسمالية، الإخوانية والوهابية والديكتاتورية والديمقراطية ونظريات سياسية، ولادة عقيمة تراكمت مساوئها، وطغت على إيجابياتها، والسبب كان ومازال نتاج الصراع الديني بين الوهابي السلفي والإخواني المدمرين للإيمان الحقيقي بالله وبالحياة وبالأخلاق، ناهيكم عن تصوير الصراع على أنه طائفي، أي بين السنة والشيعة، وأهم من كل ذلك غزا الطبيعة الإنسانية الراقية وأحاسيسها السليمة، آخذاً بالنخر فيها.

 متى نستفيق ونبتعد عن الشعوبيات التافهة التي تملأ العالم الآن، ونتجه لتنشيط شعوبنا المتكاسلة، التي تأكل بعضها، وبالتالي تأكل دولها، بدلاً من أن تبنيها وتعمل على النهوض بها؟ متى سنتخلص من مقولة: لا أهتم بمن حولي لأني مهتم بما هو أهم، وهذا يأخذني لأقول: ليس كل من قرأ فهم أو أصبح مثقفاً، ولكن من الأهمية بمكان أننا عندما نقرأ يجب أن نفهم، ومع الفهم ينبغي أن نتثقف.

 تابعوا معي الكثيرين وهم يتحدثون أن فلاناً قال، وتحدث الكاتب فلان، وقرأت تلك الدراسة، يستشهدون بالآخرين من دون قدرتهم على تقديم فكرة أو الإسهام في إصلاح أو المساعدة على الخروج مما هم فيه، مجسدين نظرية حامل الأسفار، من دون فهم ما يحمل، أين واجب الإنسان تجاه الإنسان ومع بعضهم تجاه مجتمعهم ودولتهم، ألا يدعو مشهدنا العربي والسوري بشكل خاص للتساؤل؟

قول سليم: إن كل ما هو صح ينجح، وليس كل ناجح يحقق الصح، لأن الطبيعة الإنسانية قائمة بين الخلاف والاختلاف، وإن محاولة جمع الناس في بوتقة واحدة شبه مستحيل، أو أن يكونوا على رأي أو قول واحد، أو حتى سلوك موحد، وتصنيف الناس في بلادنا على مبدأ الأقوى والأغنى مشكلة كبرى، لأنها تظهر المصالح على حساب المبادئ؛ أي إرث تتوارثه الأجيال الجديدة التي تمتلك رغبات البحث عن الصح، وتسعى للوصول إليه، فهل تنتصر لذاتها وحظوظها بغض النظر عن صحة مواقفها أمام الآخر التي تشكل معه مجتمعها، وتظهر من خلاله دولتها، وهي التي أدركت بشكل قطعي أن لغة الحروب لا تمتلك أي قيم أو مبادئ، ونتائجها ومهما بلغت فلن تعني تحقيق النصر.

 إرث ثقيل تحمله الأجيال الجديدة على كواهلها، تريد أن تنفضه عنها، وهذا لن يحدث إن لم يتحقق تمكين اقتصادي ينتج التمكين السياسي، ومن دون ذلك يتحطم الطبع الإنساني، وتنهار الأحاسيس نتاج تفكك الأسر التي لا عمل لديها، ومن خلال ذلك تفقد الحياة لديهم معناها، ما يسمح لانتشار الاضطراب والقلق والأمراض والتعاسة، وهذا كله يؤدي إلى استنزاف الدولة وقواها الفاعلة والعقليات المتحجّرة التي مازالت متمسكة بالأدعية والهتافات، حيث تدرك أن لديها مشاكل في إنجاز الحلول الناجعة للانتقال من الأسوأ إلى الأفضل، وأهم ما تمتلكه الطبيعة الإنسانية هو الحس السليم، بينما الطبيعية البشرية تمتلك الغضب السريع، وأبرز معالمه العماء الذي يؤدي إلى فقد كامل مكونات الوعي، بما يجب أن يكون، لأن مكونات الغضب عنصرية المشهد مهما كان نوعها، ليظهر من خلال هذا السلوك حالة تعتبر من حالات الانهيار الإنساني.

سؤال يفرض حضوره، لماذا تغيّر الواقع العربي فجأة وبشكل خاص طبعه الإنساني وسلوكه؟ ما الذي حدث وأدى إلى إحداث كل هذا الدمار المادي واللا مادي؟ ما الرهانات التي حدثت، وماذا أنجبت؟ نتحدث ضمن منطق الحسابات الواقعية بعيداً عن النفاق السياسي والاجتماعي والميكيافيلية والشعارات المزيفة.

 ما فعلته الشعوب والحكومات يرينا حجم مأساة الفكر العربي وطبعه وسلوكه، كل هذا يقودنا لتعزيز السؤال حول التعلم والتعليم واحتياجهما لأساليب جديدة، فهما المؤثران في القوى القادمة من الأجيال الفاعلة والعاملة المستقبلية، فإن لم نطورهما بقينا في حالة هدر لإمكانات اقتصادية واجتماعية أكثر من مهمة، ما يؤثر سلباً في حالة الوجود داخل القطر ولدى الأمة، إن علاج أمور كهذه ليس بالأمر السهل، ويعتبر تحدياً وجودياً، ولا مجال للتراجع عنه، لأن الشعب السوري ومعه العربي أصبحوا مدينين لعشر سنوات من الانهيار الذي قتل فيهم الطموح، وأرهق طبيعتهم، ودمر أحاسيسهم، فلا يمكن إلا أن يكون فعلاً جديداً، لأن الكفاءة مازالت حاضرة، وهي متوثبة وجاهزة للأخذ بيدها

د. نبيل طعمة