اللغـــة والديــــن

اللغـــة والديــــن

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٢٦ أبريل ٢٠٢٠

منظومتان حياديتان إنسانيتان تماماً، متداخلتان من أجل التعبير عما يريده الجوهر والمظهر، إلا أن لكل منهما مذهبه الإنساني، ومادام الإنسان ذا لسان اختص عن غيره من الأجناس، فلا يمكن لنا أن نعثر على إنسان غير لاغ، لأن نظرية خلقه قامت على الكلام حتى مع مكونه الذي اختاره أو اعتنقه، فالواقع يؤيد الفصل بين الدين واللغة، لأن الإنسان بمجمله قادر على أن يتقن أي لغة متى شاء إضافة إلى لغته، لكنه غير قادر على أن يمتلك دينين في آن، والدفاع عن الدين يكون باللغة الممهورة بهوية الإنسان أو بأي لغة يجيدها، إضافة إلى لغته الأم، لأن الدين يحتاج إلى لغة تمثله بشكل استثنائي، وهنا أقول: إن اللغة هي أهم وأضخم القيم التي تقوم عليها إنسانية الإنسان، وهي أهم فاعل في تكوين الحضور البشري، وهنا أشير إلى أن الدين أي دين وجد كدعوة لجميع الناس في سبيل اعتناقه، يقبل به البعض، ويأخذ بغيره الآخر، أي لا يمكن حصره في مجموعة خاصة أو شعب أو حتى أمة، وفي الوقت ذاته لا يمكن فرضه بالإكراه، وإذا حصر فقد كل خصوصيته الإنسانية المتجلية في لسانه الذي يقول: لا فكر من دون لسان يجمع الناس كلها، ويخضعها المنطق الذي منه يوصفها على أنها درجات علمية أو معرفية أو فهمية، وهنا تظهر اللغة على أنها غاية وليست وسيلة.
اللغة علم عقلي مذهبها المنطق، فإن لم تكن في عملية تطوير دائم فهي إلى انحسار، بينما الأديان مذاهب روحية تعمل في القلب، فتصيب فيه إيماناً، وتخلق فيه جوهراً، أو تبقى طقوساً يمارسها المظهر في حركته، فإذا أضفنا إليها أنها ظواهر اجتماعية حقيقية تدفعنا للإيمان الأهم، لأنها تمثل هوية بكل ما تعنيه.
 ما أرمي إليه مما قدمت هو البحث في لغتنا العربية، التي لم تكن خاصة المسلمين، لأنها سابقة على وجودهم الإسلامي، بل كانت ملكاً لمن يحيا على الجغرافيا، التي بفضلها أطلق عليها العربية، التي وسمت أبناءها بالعربي، نظراً للسانها الناطق بها، فكانت للأديان التي سبقت الإسلام، ولعبت المسيحية التي عززت أسسها وقواعدها دوراً مهماً، وقبلها اليهودية، وبينهما المانوية والصابئية والحنيفية ونسبها حصراً إلى الإسلام، مغالطة فيها تجنٍّ على الإسلام ذاته، لأنه أنزل بها وعليها، فإذا ناقشنا موضوعها بعلمية التاريخ الممهور باسمها مبتعدين عن العواطف، وأجرينا مصارحات تستند إلى الحكمة التي لا تحضر إلا من خلال التفكير المنطقي ومصلحة الأمة المجتمعة من شعوب وقبائل، كل منها له معتقده وإيمانه ومفردات لغة تخصه، جمعها جميعاً لسان ناطق بلغة يفهمها الجميع، ليظهرهم كقوم يحترم تنوعهم، فلا يتعثر بينهم لسان، ومن خلاله تتجابه الذهنيات، وتتفتق الأفكار التي لا يمكن أن تصل لبعضها إلا بلغة واحدة، وأي مكونات أمة عندما تريد الحفاظ على نقاء شعورها وحضورها والتدقيق في تاريخها يجب أن تدافع عن لغتها بلا هوادة، لأنها تمثل تاريخها وجغرافيتها وفكرها وأديانها وآدابها وحقوقها  في تنظيم وجودها في كل ميادين حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
 اللغة الأم تتقدم كل اللغات التي يكتسبها اللسان بالتعلم اللاحق، ولها الحق في الحفاظ على موروثها اللغوي، كما هو حال السريانية والآرامية والآشورية والعبرية.
أيّ سر حملته لغة بلاد الشام أو الكتلة التاريخية السورية، التي حدودها من جبال طوروس حتى صحراء النفوذ التابعة الآن للسعودية، ومن الأهواز حتى العريش المصرية. أيّ لغة نطق بها أبناء الإله هدد أو حدد إله الرعد والمطر، وبعده الإله جوبتير إله الشمس، وأن يحضر موسى النبي ناطقاً باللغة العبرانية أحد مكونات اللغة العربية إلى مدائن صالح ضمن صحراء النفوذ السورية، وأن يلد السيد المسيح في بيت لحم، وينطق بالآرامية، وأن يحضر الرسول محمد عليه السلام إلى القدس ودمشق ناطقاً بالشكل النهائي للعربية، ويمتلك علومها. أيّ سر يجعل بولس الرسول ينطلق من دمشق إلى فلسطين إلى أنطاكية، يبث رسائله قبل أن يصل روما، وأن تنطلق جحافل المسلمين وصولاً إلى الأندلس والعباسيين إلى حدود روسيا وسور الصين؟ أيّ لغة حمت كل هؤلاء العظماء؟ أيّ لغة ضمتهم إلى التعلق بها، ألا ينبغي أن نتفكر في مكنونها؟ هل من مفر لنا غيرها؟ لذلك أدعوكم لإعطائها الأهمية القصوى وإعلاء شأنها.
 مخطئ من يعتقد أن العرب بلا لغتهم يكون لهم رسالة، ومخطئ أكثر من يعتقد أن تكلمه بالفرنسية أو الإنكليزية أنه تعبقر وغدا مثقفاً رغم أهمية امتلاك اللغات الأخرى التي تضفي على الإنسان العربي حضوراً، هذا الحضور الذي يجب ألا يتحول إلى عقد نفسية أو انفصال عن واقع أو اعتقاد بأنه غدا من النخبة، لأن جوهر أي ثقافة غايتها تبادل المعرفة واكتساب الإيجابي منها، وبهذا الشكل تحدث المنفعة، فإذا كان شرطها الأول التمكن من لغة الأمة، فيكون شرطها الثاني امتلاك لغة ثانية أو لغات، ليحدث التبادل المعرفي والتلاقح الفكري الوجداني.
لا يحق للعربي المسلم أن يحتكر اللغة العربية، كما لا يحق للمسيحي أن يحتكر اللغة الإنكليزية، إنما يحق للعربي الأصيل الدفاع عن لغته ووجوده وثقافته، كما يحق للفرنسي والإنكليزي والألماني والروسي والصيني الدفاع عن لغاتهم وعن أديانهم بأي لغة يشاؤون، وبهذا تقوى اللغات وتنضج أكثر بإبعادها عن منظومات التديّن رغم حاجة الأديان لها.
 من مخابئ اللا وعي الإنساني يتحرك الوجدان ناطقاً متعلماً كان أم جاهلاً، تتحد السليقة مع القلب والعقل، تدغدغ اللسان، ليتحدث ونتعرف عمن يتحدث وما يريد عبر كلمات تخرج من أفواه البسطاء، كما هو حال الأغنياء.
 أسأل الآن: ما موقفنا من لغتنا؟ هل فهمنا فلسفتها، أم مازلنا بعيدين عن ذلك؟ ولذلك نجد جفاء بيننا وبينها، ومع تبدل الأجيال هل تبدلت قواعد حركتنا ومسيرنا ولغتنا؟ أم إننا بتنا ننظر إليها على أنها صعبة المآخذ معقدة على الفهم، لأنها تطالبنا بضرورة فهمنا للعروبة والعرب والإسلام وما يرافقه الآن، وهل استوعبنا فكرتها القومية التي لا تخص الدين، بل الحياة وخطابها الاستثنائي المنادي أبداً: "يا قوم" هل وصلنا إلى مرحلة تقديم أفكارنا بلساننا العربي بحكم أن أي مادة فكرية تعبر عن المعاني الخاصة بنا التي تتألف منها طبيعتنا العربية؟
 هل يقدر الدين وحده على تقديم الشخصية العربية؟ وهل نستطيع أن نتقدم بالاستناد إلى الدين فقط؟ أم إننا بحاجة ماسة لاستيعاب مفردات لغتنا؟ انظروا إلى الأمم الأخرى، كيف تعاملت مع الحياة البوذية، الهندوسية، الفارسية، اليهودية، المسيحية، والإسلام لدى الدول التي يحيا بها معتنقوها؟
إنها لغتنا التي يجب أن نعتبرها أشرف أداة وأفضل وسيلة للتعبير عن مكامن شعورنا بأننا أمة يسكن كل فرد من أفرادها الشعور الوطني، وأكتب لكم عنها لا لأنها قضية، وإنما لأنها تجسد مفهوم العرب للحقيقة، فما التبس على سواد أفراد الأمة بسبب العاطفة لم يدع مدى لها في الفكر الذي يجب أن يذهب إليها.
 أين جهابذة اللغة الذين سادوا عصر التحرر العربي من نير الاستعمار، وأنجزوا الاستقلالات؟ أين نحن الآن من ذاك الاجتهاد الفكري الذي عبروا عنه بلغة العناد مقدمين العروبة والقومية على الأنا القطرية والفردية؟ هل من أمثالهم الآن؟ لولا أولئك فما كان حالنا اليوم ونحن نرى إرثهم وإرث أجدادهم اللغوي يشطُّ في حاضرنا بعيداً عن جادة الصواب، هل ننهض مما نحن عليه، ونأخذ مفهوم اللغة كقضية نعلي شأنها كما تقتضي؟ أم إننا ندعها في حالة تدهور؟.

 د. نبيل طعمة