معنى الحب

معنى الحب

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٣ مايو ٢٠٢٠

متاهاته وتناقضاته مثيرة كثيرة، مهم جداً أن يستمر البحث عنها، لأن أي مجتمع لا يمتلك الحب آيل إلى الكراهية أو التشرذم، وواقع لا محالة في الخطيئة والرذيلة بمعناها المادي والروحي، لأن من يتملكه يقع عليه واجب فهمه، والذي يكتفي بممارسته يحيا به وهماً لا أكثر ولا أقل، وهي حالة تشبه الحيوانية أو الغابية في كل شيء، والمزج بين أقصى مقتضيات الشهوة وأرفع مجالات الروح، معضلة مازالت تشغل فكر الباحثين عن تعريف له، لذلك كان الوصول إليه مهمة شاقة يصعب على أي إنسان متعلق فقط بالشهوة فهمها، مهما كانت صفته أو درجته، جاهلاً أم عالماً، وتنوعه لا حدود له.
 الحب أنواع، ولكل نوع منه منهجه ونكهته، الشوكولا مثلاً، الوطن والأم والإله والأبناء والمال والصديقة العاشقة والزوجة والخمر والقمار، أو الأمكنة التي تسكن العقل من خلال ذكرياتها، وجميعها تحمل وجهين، إما الانتصار وإما الانتكاس، ولا يعني حبّك لشخص ما أن يأخذ بك لتملكه، والذي يعني جوهر الحب أنك تؤيده وتؤازره وتشعر بالسعادة عندما تمنحه حقه في إثبات شخصيته وتطويرها، فالحب يتعارض تماماً مع الاستعباد والتملك مهما كانت الأسس التي يستند إليها المحب، ذكراً كان أم أنثى.
 لا حظوا معي ودققوا وتفكروا، إن أغلبية البشرية ورغم اقترابها من مرحلة اكتمال الوعي والنمو إلا أنها لم تنجح في الوصول إلى القدرة على فهم الحب التلقائي الفياض معرفياً، هذا الذي ينتج التأييد والمؤازرة، لأن سوادهم بقي حاملاً بين جنباته ضروباً من الخوف والعدائية نتاج مواجهتهم للعديد من مواقف الفشل أثناء رحلة نموهم الفكري والجسدي، والذي كانوا يطلقون عليه حباً لم يكن كذلك، حتى بالنسبة لأوثق روابطهم المنتهية أو المستمرة.
 هل طبيعة الإنسان الاجتماعية تدعو إلى الحب، أم إنها طبيعة فجة تسكن جوهره؟ وهل يوجد حب بلا غاية حتى مع الإله، وسرعان ما تنفجر عند أول تهيؤ بحدوث شك أو خطيئة أو سطو النقائض والمصالح عنه، ليكون رد الفعل عنيفاً، وأكثر مما يتوقعه الحب؟ وهنا أقول: إن الإنسان إذا أراد أن يبقى ويستمر فلابد أن تتزايد أعداد المحبين للإنسانية، من خلال هؤلاء القادرين على رفض قتال بعضهم، ونجدهم مندفعين للعمل ما في وسعهم لوقف ما يدور بين الناس من عنف وكراهية وقتل، لذلك نجد أن المحبين أو المتعلقين به يمتلكون الأفكار الكبيرة، تحفزهم هممهم الجادة التي تبعدهم عن المخاجلات الضعيفة التي تدعو للهدم لا للبناء وإعمار الحياة.
الحب مقدس في حياة الناس، وعظيم النتائج المبهرة والمؤلمة، لماذا؟ لأنه حب، ومساره ممتلئ بالعقبات، فمن لا يهابها تدهشه النتائج، فهو معادلة بين المرأة والعمل، بين النجاح والفشل، بين الجوهر والمظهر، مضاف إليها الجنس والجسد، والإنسان عندما يتملكه تجده يمتلك لغة الحنان والقبول والرفض، لغة التمني والحلم والتمنع، لغة تستخدم كل المفردات التي تستخدمها طبقات الناس على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، بداية من حب الرفقة مروراً بالجنس، وصولاً إلى الاستقرار مع شريك الحياة، وبه أي بالحب نجده تفوق على قدسية الزواج، والسؤال الأهم: ما العملية التي تجعل من الاثنين واحداً، وما مصير هذا الواحد إذا فقد الاهتمام والاحترام؟
 ماذا يعني اختلاط الحب بالرغبة الجنسية؟ وهنا لا أريد خلط الأمور، ولا أجول عبر الاحترام المرسوم في أذهاننا الاجتماعية، ولا أدخله على الأداء الجنسي، فالذي يعتبره إباحة وقلة حياء في الجنس، قد يكون بالنسبة لأحد الطرفين أو لكليهما قمة الاحترام عند تحقيق الرغبات بالشكل الأمثل، من دون اعتماد التصريح عنه أو غير ذلك، ليظهر بعد ذلك الاحترام للأحاسيس والمشاعر وتقدير حضوره وإسهامه في استمرار الحياة.
 ونحن نبحث عن معنى الحب نجده يأخذ بنا إلى عوالمه، ونتوه بينها، ففيه الحنان والجفاء، والوصال والصد، الاحتضان والهجر، التمني والتمنّع، فيه لغة الجمال والجلال والخشية، لا الخوف والرهبة من التبعية، وفيه لغة دونية سوقية أو يتصورها فاقدوه على أنها منحطة، إلا أنها ذات آثار أكثر من إيجابية، تظهر في لحظات تكون مثيرة وأكثر من مهمة، لغة بسيطة ومركبة صعبة ومعقدة، تمتلك كل ما يخطر في العقل من مرادفات، فالحب والجنس ليسا غريزة كما يصرّ الكثرة، إنما هو فن يحتاج إلى صقل وعلم، يجب امتلاكه وتطويره.
 أكتب في هذا المنحى لأن سواد شعبنا يخاف الحب، ويخجل منه أو الاعتراف بضرورة وجوده، ويتعامل معه الناس كمحرم أو تهمة، أو يجدونه عبئاً ثقيلاً، لذلك تعاملوا مع الحب على أنه وسيلة، وليس غاية، والناس كل الناس في حاجة ماسة إلى أن يُحِبِّوا أو أن يُحَبَّوا، وما يقظة الغرائز الجنسية إلا من أجل خلق أجواء ملائمة لولادة الحب، والحب لا يعني التناسل فقط، بل هو تحرر من العزلة النفسية والوحدة وآلامها، وهذا يستدعي فهماً كبيراً للحب، الذي إن أضفنا إلى تعريفاته بأنه اتحاد إيجابي يحتفظ كل واحد بتكامله وهويته وبتفرده وإيمانه، وهنا لا بد أن أشير إلى أن العالم دون العرب لم يشهد إدانة للحب والجنس وقسوة وعنفاً وترهيباً كما جرى عند العرب، رغم تعلقهم بكل فنونه ومجونه وشذوذه، جهاراً وخفية، يحاربونه ويقاومونه في العلن، ويمارسونه سراً بحكم الهجوم الديني والاجتماعي والشرعي والقانوني عليه.
على الإنسان أن يحترس من الحب الذي لا يقتصر الأمر فيه على ذاته من دون عكسه على محيطه، وإن فعل فقد نفسه، وتاه مع سائر مفقوداته، هنا أسأل: هل يزول الحب أو يموت؟ لا أعتقد ذلك، وتحوله من القوة إلى الضعف يكون بوجوده، أسباب تافهة تبدأ بتعكير المزاج نتاج الظن والوشاة وعدم وضوح العلاقة أو ندرة المصارحة، وصولاً إلى الكراهية، التي هي في حد ذاتها حب يقف على نقيض الحب، تتجسد في برودته، فالحب ثقة، لأنها تمنح الدفء له، ومن دونها انفلات وتعصب وتوهان، وإذا تمّ تبادلها بين الاثنين من خلال الوصول للمصارحات، هذه التي تعتمد في تحركها أو نموها على الصعود إلى درجاتها، لتتحول إلى بناء مشترك ينمو بهدوء وقوة، وهنا أؤكد أن الحب هو ما جعل الإنسان منذ البدء وحتى اللحظة ينظر إلى الأنثى وإلى الله وإلى الأرض بعيداً عن الانتماء الوراثي أو الجين التاريخي، أي إلى الأم أو الأخت أو الابنة باستثناء الشواذ الندرة، لأن للحب أسساً وقواعد مختلفة، فالبحث عن السحر الغامض الذي نطلق عليه كيمياء الحب مازال مستمراً، ومعه تفك كامل الشيفرات المكبلة للحياة البشرية.
ما خلقت العين والأذن إلا لما هو أرفع وأسمى، فهما وجدتا للتأمل في الجمال واستنباطه والتفكر في تكوينه، وهذا هو الحب، ففي المجتمعات الروحية العلاقة بين الدين والجنس أكثر من متلازمة، وغالباً ما تأخذ علاقات الحب بشروط الالتزام الديني والأخلاقي بالامتثال والطاعة والسمع بعد خيانة الطرفين لبعضهما، وتكون الرابطة طبعاً عهوداً شفهية، تشكل أغلالاً من الإحباط والاكتئاب، فيفقد الحب حريته في التأمل والتمتع بالجمال، لأنه انحصر في أضيق دائرة، وهو ليس كذلك.
لم يقدر أحد حتى اللحظة للوصول إلى تعريف للحب، واختصاره بجملة واحدة أو فكرة وضع نظرية له ضرب في المحال، فلا يكمن في إشباع الاحتياجات العاطفية، ولا يدخل في الرغبة بالأمان والتغلب على الخوف، ولا في حب السلطة أو التسلط، ولا يهتم بالترجمة الفورية، لأنه عملية فيها يكمن سره، فهو كريستال ثمين، يمتلك ألف وجه، وابتسامة الجيوكندا لها ألف تفسير.

د. نبيل طعمة