حقوق بلادي

حقوق بلادي

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٢٨ يونيو ٢٠٢٠

نستجمع التاريخ، نجمع الوثائق المؤكدة، نناقش المؤتمرات العالمية، نفنِّد نتائجها القديمة والمحدثة والمستحدثة، نحلل البيانات بعلمية سياسية وقانونية، نحمل لغة واحدة هدفها الرئيس الدفاع عن حرية واستقلال وطننا، هذا الذي فعله الأجداد والآباء، ونحن نورثه للأبناء والأحفاد، لأن ذهنية الطامعين المعتدين مازالت مستمرة، فأرواح شهداء الوطن الذين ضحوا بفكرهم ودمائهم في سبيل قضية الانتصار له يجب أن تبقى هاجساً مؤثراً في حياة وبقاء سورية والسوريين.

صحيح أننا نحيا ضمن الاستقلال، لكن آثار الاستعمار القديم مازالت مستمرة، تعمل عملها في مناحي الدولة التنفيذية والإدارية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، رغم وصولنا إلى المدنية وتفاعلنا مع الحداثة، ودليلنا دعاة الفرقة والانقسام وأعداء الوطن ووحدته وعروبته، والمصرّون على إبقائه متخلفاً مازالوا يتربصون به وبأبنائه، يتحيّنون الفرص للنيل منه، ومازالت ذهنيات البعض التي تغريها وتبهرها صور الغرب بعيدة عن التفكير الوطني الصحيح، ومازالت نفوس كثيرة تنفر من التجانس والتكامل مسكونة في نظرياتنا السياسية وأدبياتنا العروبية، وتأبى فهم الواقع وما يحيط به، ولا تريد إدراك حقيقة وجودنا وضرورة تمتعنا بروح التقدم والإخلاص والانتماء، وحينما تحاورها تجدها وكأنها غريبة منفصلة، وتجد ثمار عملها ليست لخير الوطن ولا لأبنائه.

 لا تزال حقوق وطننا ووطنية سواد شعبنا هذا الذي استعبدته القرون مقيدةً بحبال التقاليد البالية والأمية التعليمية والفكرية مرعبة، ولا يزال معظمه يعمل بنظرية المصالح الخاصة والشخصية، تتملكه العصبيات العشائرية والمناطقية، وتخلخله المذاهب الدينية، وطوائفه أكثر من أن تحصى أو تعد، وتتقاذفه المذاهب السياسية، والمطامع الخفية تسوق رأيه العام إلى الحيرة والفوضى والخروج على النظام وشق عصا الالتزام ومقاومة الإصلاح، وحتى اللحظة نرى أن الضمائر تشترى وتباع بالمال، وتتأثر بالمنافع الشخصية، فنرى ضعفاً في النتائج، وهياماً حول المنطق، وتشوهاً في الأسلوب، وفقراً مقنعاً وظاهراً، ولم تصل النسبة العظمى من شعبنا إلى الدرجة الأولى من الرفاهية البسيطة، عقودٌ والكلّ يطالبها بالصبر والتحمل، وأن الأفضل قادم، وهي تموت وتحيا من دون تحقيق ذلك، وفي الوقت ذاته لا نزال نبحث عن تطبيق مناهج علمية وتعليمية لخلق أجيال جديدة بعيدة عن الفساد أو الإفساد، وثابة من أجل تحقيق النهضة، مدركة للواجبات الوطنية ومخلصة لوطنها من خلال تأمين مناهج يقوم عليها مؤمنون بها مترفعون عن معتقداتهم المحرمة المختزنة في جوهرهم، لأن عملهم الأساس هو رفعتها وسلامتها وتعزيز مكانتها.

كل شيء يموت أو ينتهي إلا الحقوق، وأهمها الحقوق الوطنية في الحياة والجغرافيا والتاريخ والحضارات، إضافة إلى الحقوق الجماعية والفردية، وهنا يحق لكلٍّ أن يسأل بعيداً عن الأبعاد الدينية: هل نحن مسيّرون أم مخيّرون في بناء هذا الوطن؟

نحن السوريين ولدنا من أعماق الحياة البشرية ومن أقدم أعراقها، لنا حضاراتنا وتقاليدنا، خالطنا شعوب الأرض قاطبةً، وامتلأنا بالتجارب، وأثقلت كواهلنا الخطوب والمصائب، وصحيح أننا طيّبون ومتسامحون، لكن لدينا ما لدينا من القوى التي جعلت منا معقدين وليِّنين مركبين يسيرين، فمن لا يفهمنا تفاجئه حركتنا، لذلك أجدني أبحث في أننا بحاجة لخلق حياة جديدة بعد أن نهب التاريخ من جغرافيتنا السورية الكثير، ومن أمتنا السورية أكثر، والحاضر الحديث استمر في فعل ذلك، فاللواء سليب "إسكندرون" والجولان محتل، ودول العدوان التاريخية تجثم على مناطق كثيرة، وهي مبعثرة ومتفقة بين التركي والفرنسي والبريطاني والأمريكي، دول الاستعمار القديمة الحديثة مع الصهيونية الإسرائيلية الحديثة العهد، هذه الدول لا تعوزها الذرائع أو خلقها للقيام بأعمالها العدوانية من أجل تحقيق مطامعها.

 أوقات الشدة المطبقة على البشر والحيوان والشجر والحجر هي ما دعتني لاستعرض سيرة الماضي وربطها مع الحاضر، فهل نذكي نشاطنا الفكري، ونثير حماسه الوطني، ونتطلع إلى امتلاك ثقافة بناء شخصية رشيدة، تنبع من جوهرنا، تسود على مظهرنا، تطلعنا على الحقائق، وتنير دروب الواجب؟ هل نسعى لتدشين حياة وطنية جديدة خالية من أدران الماضي القريب والبعيد وفظائعه؟ لنبني في تصوراتنا غداً مهماً نذهب إليه بأمان واطمئنان، وإني أحاول أن أبسط شرحي للأدوار التي يجب أن نشتغل عليها، وأهمها الدور الوطني بما له وما عليه، وأبيّن مقدار المسؤولية بين المجتمع والدولة ومعالجة الهوة بينهما بواقعية.

 ما أرى ومن الضروري بمكان أن نتجه للتحدث بواقعية، ونكتب ما نعلم عن الحقائق، بدلاً من أن نقول ما نعلم، ونكتب بما لا يتفق مع الواقع، والمحاولة تصنع المعجزات، وتذلل العقبات، إلى أن نصل إلى الهدف، وإذا لم نحاول فلماذا يكون الاجتهاد والكفاح؟ وكيف نتطور ونتكامل إن لم نبذل التضحيات؟ وكيف نتطور إن لم نصل إلى العلمية ونمتلك فنون الجمال وآدابه؟

إن العالم الديمقراطي برمته يشكو اليوم من ديكتاتورية أمريكا التي تدّعي الديمقراطية، وهي تضع سورية وتجبر حلفاءها على تطبيق أبشع صيغ الحصار، وحرمان دولة بكل ما فيها من كل شيء، وسورية التي تتحمل اليوم ظلماً ما بعده ظلم نتاج مطالباتها بالوصول إلى حقوقها ترفض كل أشكال الظلم الواقع على غيرها، فكيف بها لا تطالب به لشعبها وجغرافيتها، وهي التي تمتلك الحق؟ تقاومه وتكافح بكل ما أوتيت من قوى من أجل الوصول إليه، وهنا أقول: إنه لا يكفي أن يطلق القائد أو الرئيس أو الزعيم المبادئ الأخلاقية والحث على الفداء وضخ المشاعر الوطنية، فهذه إن لم يكن مجموع الشعب مؤمناً بها، وإن لم تستمد قوتها وحركتها من أفئدة الناس، فلن تجد لها طريقاً للحياة، وبالتالي تحدث الشروخ، ومعها تنتهك الحقوق، وتبتعد، فمن يخدم سورية يخدم أمتها الخالدة في تنوع شعبها، ومن يحافظ على بقائها ووحدة أراضيها يحافظ ليس عليها فقط، وإنما على الأمم، لأنها تجسد إنسانية الإنسان والوفاء لها بما تحمله وفاء لمبادئها السامية وحقوقها في حياة كريمة، هذا الوفاء الذي يحفظها لتتخطى به الأزمنة التي مرت عليها، وليس أبطالها يكونون في زمن الحرب، فقط من يحققون النصر تلو النصر إنما هم أولئك الذين يصبرون حين تشتد الخطوب والمحن، ويثبتون عندما تهتز الفرائض وترتجف الشفاه وتضطرب القلوب، ويطلبون عزَّ الموت متقدمين إليه بدلاً من ذلِّ الأعداء، فلا حياة للسوريين إلا بالكرامة والحرية وحماية أرضهم من كل عدوان، وبذلك يعبرون عن وحدتهم وأصالتهم واستقلالهم، وإيمانهم بتكاملهم وتجانسهم ينهي رواسب الاختلاف اللاإنساني المسكون في أعماق النفس، لأن الرواسب هي التي تفسد الانتماء والأداء الجماعي، وتبعد رؤيتنا للحقائق الجلية في أننا مجموعة إنسان اسمها سورية، هذا الاسم الذي يليّن الأفئدة المتحجرة، وينير الوقائع المظلمة، ويحول التعاملات الحادة إلى طبيعية، والذهنيات الانفعالية إلى هادئة ومستوعبة، وهنا أدعو الجميع للارتقاء لمستوى اسم سورية والتعلق به، فهو الطبيعة والهوية والشخصية، فسورية رسالة وأمانة، ولا يمكن لأي كان إنكار التاريخ ولا اختزال الحوادث أو الاستغناء عن الوثائق التي تؤكد الحقوق الوطنية المثبتة في التاريخ والجغرافيا والعقول البشرية.

حقوق بلادي وأبناؤها الخلّص لديهم كامل الحق في المناداة بها والدفاع عنها والوصول إليها آجلاً أم عاجلاً لتحصيلها، فهي تشكل دعوة إلى تعاون إنساني يستند إلى أساس من احترام الحياة وتقدير للقوى البشرية، والعالم الذي ننظر له نحن السوريين على أنه كائن أزلي أبدي متطور، يؤثر في بعضه إيجاباً من منطلق حركة التاريخ الإنساني، لا من منطلق شرائع الغاب، نقول له كفى استهتاراً وإضعافاً للدول النامية والباحثة عن استخلاص الوجود من بين أنياب شراهتكم.

 د. نبيل طعمة