الشرق الأوسط

الشرق الأوسط

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٥ يوليو ٢٠٢٠

يبدو المشهد الأول أو المتطلع على واقع عنواننا براقاً جميلاً ومبهراً، إلا أنه رويداً رويداً يكتشف ما يحمله أهله وجغرافيته من متاعب، وأن الاجتهاد لديه لا يحالفه الحظ، ويعانده القدر، رغم أنه روحي بامتياز، رحلته رحلة طويلة وشاقة، ولذلك يسأل إلى أين؟ وهل لديه أمام يريد الوصول إليه؟ أم إلى الوراء دُر من حيث هو وصل وانزلق إلى متاهات الانتصارات والهزائم؟ حيث دوامة اللا خروج واللا تقدم وانخراط في مواجهات السياسات الملتهبة التي تدور على ساحاته بشكل دائم، يؤججها ضعف الفكر الإنساني، هذا الواقع المراد له أن يكون فكان، لأن من الواضح وبتحليل بسيط وقراءة نوعية تجده ومنذ زمن بعيد شكّل ساحات تحتدم فيها حسابات القوى العظمى وصراعات القوى الإقليمية وجهل الشعوب فيما ترنو الوصول إليه حتى اللحظة التي أخط بها كلماتي، لم تصل شعوبه إلى مغزى ومعنى وجودها وأسبابه، ولم تصل إلى أدبيات الحوار الوطني ومقتضياته المتعلقة بالتنوير الاجتماعي والتطوير الاقتصادي والإبداع العلمي، إنما كل ما يجري ونراه عبارة عن نقاشات نتائجها مجوفة، لم تصل إلى نهايات مقنعة، لأنها غير قادرة على معالجة جوهر المشكلات، ما ينشئ وبشكل دائم التناقضات الصدامية بين الدول وشعوبها، وبين الدول مجتمعة أو متفرقة وسبل دول الإقليم ممتلئة بالآلام مذ أن حملها السيد المسيح وحتى اللحظة يحمل القادة آلام شعوبهم التي تسير إلى جانبهم وخلفهم إلى أين؟ من النتيجة إلى الصلب، والسبب انعدام القدرة على خلق مجتمعات غنية بالأفكار الخلاقة مع الاستمرار في تخلف المشاريع الثقافية والاستمرار بالاعتماد على المنظومات الدينية التي تعتمد الماضوية أساساً لها، ولم تقدر على تطوير بناها الاجتهادية، لنراها دائماً تائهة بين الانتماء لدينها الشمولي أو لموطنها خاصتها أو الارتماء في أحضان الغير.

كيف يكون هذا وإلى أين؟ ونحن نرى أن عالم الشمال والغرب منه بشكل خاص يدعم المفاوضات باستمرار من أجل تسوية النزاعات التي لم تتوقف منذ نشأتها التي يقف خلفها ويعتبر محركها، وتشرف عليها الأمم المتحدة في جنيف وموسكو ونيويورك وباريس وبرلين ولندن، في سورية يتحقق بعض النجاح، فشل مستمر في فلسطين، وفي ليبيا لا حلول، واليمن والصومال وإيران وساقية الذهب حلف شمال الأطلسي يقيم وجوده في وسطه وجنوبه وشرقه، وهو يقول استعاد السيطرة على مناطق في العراق وسورية وليبيا واليمن ممن؟ من داعش، وشكل لذلك ائتلافاً مما يقرب من 60 دولة شاركت معه الغزو والفتنة والقتال والدعم المالي والعسكري والسياسي لهذه الفئة أو تلك في كامل دول الشرق الأوسط، لتكون ضد بعضها، بينما الدول القائمة مع شعوبها الواقعة على جغرافيته لم تصل حتى اللحظة إلى جوهر مشكلاتها، التي لا تتجلى في إزاحة  أنظمتها أو إسقاطها أو عزلها وحصارها، إنما هي وبشكل مبسط وبموضوعية شديدة تكمن تحتها، أي تتربع على مجموعة من البراكين والزلازل القابلة للتحرك والانفجار في أي لحظة يريدها الغرب بتدخلات غربية أو من دونها، فإذا لم تقدر على إيجاد جذور المشكلات والبدء بمعالجتها ستبقى تدور في الفراغ، وليبقى الجميع يسأل من دون أن يجد جواب إلى أين؟ ويبقى جميع أناسيّ هذا الشرق على شكل قنابل متفجرة أو قابلة للانفجار في أي لحظة، ومن هذا يمكننا القول: إن الدلائل تشير إلى أن النتائج والمؤشرات إن أدركناها فهي أكثر من مهمة وخطيرة، فالكل يسأل عن الغد والتحديات التي ستواجههم فيه والاستمرار في تجاهل الواقع وترسيخ شعورهم المتنامي بالتهميش، والاغتراب على جغرافيتهم يدفعهم للتحول من قوى بناءه إلى قوى هادمة تعمل في اتجاه ديمومة عدم الاستقرار والتهديدات.

الجميع يخسر في الشرق الأوسط، يخسر الإنسان والمقومات والمكونات من دون أن يدرك إلى أين وهو مستمر في شراء السلاح والاستعداد للقتال، والقتال فقط ساحاته تحتدم فيها الأيديولوجيات السياسية والأجندات المذهبية والطائفية وصراعات القوى الإقليمية والدولية لماذا؟ لأن الفراغات فيه مهيأة للعب والاختراق والتسلل والتجسس، ناهيكم عن مشكلاته العميقة المستمرة الواقعة بين التخلف والتقدم، وهنا أجد أن لا داعي إلى عرض مراحل الآلام وسبلها التي مازال هذا الإقليم يسير عليها بإصرار دون إدراكه لقواعد الحوار وأساليبه وأسسه، لأن عقله تمرس على المراوغة والمراوحة في المكان، وبشكل أدق: هل قدر على التكيف مع الظروف بدقة بحسب المذهب البراغماتي، هذا الذي نقول له إلى أين؟ ومع هذا السؤال أسأل: هل يقدر هذا العقل على التغيير؟ وبالمقابل أقول: ما ماهيته؟ هل لديه الأسس والأهداف المنطقية والواقعية؟ وكيف بنا نتخلص من تركة الماضي وتراكماته المتجذرة في عقل أبناء هذا الشرق الذي يدمج كل الأشياء، لا يفرق بين صراعات الحدود ولا صراعات الوجود، ولا يؤمن بالصبر الواقعي أو الإستراتيجي، يحمل اقتصاده سمة المقاومة حتى الرمق الأخير، دون الأخذ بأفكار الجذب المثيرة للاهتمام، تلك التي تحاكي توقاً عميقاً في نفوس أبنائه لرؤية انبعاث التطور الإيجابي واللحمة الاجتماعية المؤتلفة والمتعاضدة وتحويل مجتمعاته من طبقات إلى تساوٍ يُوجد الحدود الدنيا للرفاهية أو القناعة الموضوعية في الغنى المادي والأخلاقي على التوازي، فالشرق الأوسط يتطور عندما يعتبره قادته وأبناؤه بأنه مائدة يجلس إليها وحولها أناس ذوو عقليات راقية، ومتساوون في فهم حقوق ما لهم وما عليهم، مؤمنين بإحداث تكاملات اقتصادية زراعية وسياحية وصناعية، ناهيكم عن التفاهمات السياسية التي غدت اليوم أكثر من حاجة ملحة.

والمشكلة الأكبر تاريخياً المسكونة في عقل أبناء الشرق الأوسط تكمن في سعيهم إلى الحرية والوصولية في آن، فأفراده ينادون دائماً بانتفاضة الكبرياء لشعورهم الدائم بأن به نقصاً، ويدعون دوماً إلى ضرورة التمرد العلمي والفكري على عبودية الروحي التي فرضتها عليهم نشأة الأديان والطوائف والمذاهب وضغط الأيديولوجيات الواردة من كل حدب وصوب، ما أثر في أوضاعهم المادية والمعنوية، ورسم عليهم سمات التخلف والتبعية أو ضرورات التبعية، ورسخ لديهم علاقة القوي الناجح يميل إلى الضعيف الفاشل، لأن ضعف الضعفاء يظهر قوة الأقوياء، وفشل الفاشلين يبرر نجاح الناجحين، فالضد يظهر حسنه الضد، لذلك نرى هذا الشرق ممزقاً، طغت عليه الوصولية المادية حتى أغرقته مطالب الحياة البسيطة، التي بات يسعى إليها دون غيرها مفرقة إياه بسبب الأهواء الجشعة.

إلى أين في هذا الشرق يعني أن ندرك أين نحن؟ وماذا يراد منا؟ وماذا نريد أمام العالم الذي فهم واستوعب معنى الاكتشافات الجغرافية الأرضية والفضائية؟ واستيقظ مبكراً فأيقظ معه اليقظات العلمية الفنية والغنية، وأضاف إلى فهمه قيمة وقوة المنازعات الدينية، وطور منظومات المطامع السياسية والوثبات الفلسفية، قلب صفحات الماضي لا ليتعلق فيها، وإنما كي يصل نفسيات قاطنيه، فنقل ميادين الخصام والنزاع والحروب من مناطقه إلى جغرافية هذا الشرق الذي يحتاج العدالة والضبط رغم صعوبة واقعه إلى حد ما بسبب وعورة المسلك، ولبعده في أغلب الأحيان عن زمن الوقائع وحضورنا بعد فوات أوانها، حيث نغدو أمام واقع جديد وشهادات ليس لها رواة.

كل هذا الذي تجولت فيه أي الشرق الأوسط منطلقاً من مركزه الذي يعتبر أساساً رئيساً لوجوده ألا وهو سورية، ومن عاصمتها دمشق التي خرجت منها أعظم ديانتين إلى العالمية المسيحية والإسلام، والتي نراها اليوم محاصرة بشدة، وليس اليوم فقط أو الأمس أو قبله، دققوا فيه من التركي والعراقي في كثير من المراحل والأردني واللبناني، وأهم منهم جميعاً الكيان الصهيوني، الكل على ما يبدو متفقون بشكل أو بآخر بأن هذه العقدة المميزة والمثيرة للجدل سورية، هل كان هنا أو هناك شرق أوسط من دونها؟ إذاً لماذا كل هذا الواقع عليها؟ وأؤكد على السؤال: الشرق الأوسط من دونها إلى أين؟.

 د. نبيل طعمة