الذوق والتهذيب

الذوق والتهذيب

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ١٩ يوليو ٢٠٢٠

إنهما عقلا الحرية، والحرية بلا عقل، هدر للطاقة الإنسانية وضياع لها، والإنسان يستطيع أن يأخذ من الحياة وبرأس إبرة ما لا يأخذه بأعتى أنواع المكر والخداع، لأن طريق النجاح يحتاج الواقعية في واقعنا الذي يقودنا إلى سؤال: كيف بنا نحن معشر الكتاب والباحثين والمفكرين مع الساسة نغازله ولا نقسو عليه؟ وأقصد هنا الإنسان، كي لا يعرض عنا وإرادتنا جذبه بما يتوافق مع ذوقه، حتى وإن كان سواده كسولاً، لا يجب أن نرهقه بما ينساب من فكرنا المحشو بآلاف الأفكار التي ترعب ذوقنا الشخصي، فكيف بنا نقدمها إلى أذواق قرائنا، وهو الذي يريد أن ننحت له من الكلمات التي تغريه وتواكب حياته، كي يستسيغها، فتنزل عليه نزول السلام على الأنام، والسلام هنا يكون الله الذي ينخفض لمراتب الناس، ليقارب الغرائز الدنيا مثل ما للناس، ويدع الناس ترتفع إلى مرتبته، ويجعل لهم من الفضائل ما ليس ينبغي أن يكون إلا لله، أو ما ليس يتوافر إلا له، ومشكلته أي الذوق تتماثل مع ما للحب والمال والطموح والغنى والفقر من تعقيدات، لأنه يفتقر إلى الأقلام القوية التي تسبر أغواره البعيدة والقريبة، كي تشق طرقها الوعرة، وصولاً إليه أولاً، ومن ثم تنميته والبحث في الكيفية التي تفرق بين الذوق الخاص والعام ليس بالأمر السهل، لأن هذا الأمر يحتاج إلى تحليل نوعي لتوحيدهما ومراعاة حضور الكبرياء لديها، وبناء الآباء والأجداد وقيم الحرية الفردية والجماعية والتمرد الروحي على عبودية الفكر التي يبتعد ويقترب منها كل إنسان وتناقضاته في المشارب والميول والأهداف وتذوق الجمال والتباين بين العام والخاص في فهم مبادى الخير والحق، بين الألوان والألحان، بين المشاعر والظلال، حيث إن لكل منها أسلوبها، وفي التدقيق نجدها مختلفة، لكنها تعبر عند المتتبع معنى ومغزى، يظهره كمتطور أو متخلف.

مفهوما عنواننا يدلان على أنهما فن من فنون التصرف والالتزام بالمعايير الأدبية والأخلاقية، ما يؤدي إلى التعبير عن حاملها بالرقي وحسن التعامل المادي والمعنوي، وهذا يؤدي إلى الانتشار الذي يشكل الذوق العام، الذي يظهر المجتمع محترماً تتباهى به الدولة بين الأمم.

هل اعتبرنا من أمسنا، ودققنا في أنفسنا، وبحثنا في ما أنتجنا من فكر، وعرفنا ما به من خلل ونقص؟ وعندما ندقق نعلم أن التاريخ ممتلئ بالعنف والشغب والفوضى، كما شهده شعبنا العربي عبر اتصال أزمانه والمعارك التي رآها أكثر من صعبة ومركبة، وعبر مسيرته كادت تفقده وجوده، فكيف بذوقه العام بعد أن فقد ذاته خاصته نتاج بحثه عن لملمة جراحة وانتشال أشلائه من جحيم أرضه، لا من العالم الآخر؟ وذهابه أو تعلقه بالانتقاد والاعتراض وتمسكه بما تصبو له نفسه، بكونه لا يعلم أسباب ما حدث، ولم ير شيئاً من نتائجها، ولو طلبت الآن من الكتاب أو الشعراء ومعهم الفنانون والموسيقيون والنحاتون وحتى السياسيون أن يضعوا مفهوماً للذوق العام لجاءت الآراء متباينة ومتباعدة، ولا تشابه بينها، والسبب يكمن في أن الذوق الفردي فردي، ولم يرتق إلى المستوى العام، فالأصل في الذوق أن يكون ممتلئاً بالمشاعر والأحاسيس الوطنية الراقية والمتولدة من أسس بنائه، إضافة إلى الحركة التي تظهر امتلاءه بالحب المولد لأوثق الصلات الاجتماعية، هذه المسؤولة عن ترابط مجتمعه وصورته التي تجذب الآخرين لتتعامل معه، ومن ثم تقدره أيما تقدير.

إنها كلمة أقولها على ثقة ويقين، وإني لأراها بظهر الغيب، ولكأني بها حقيقة ماثلة، وإنها لنبوءة لا أقصدها من آفاق الوهم، ولكني استوحيها من التأمل في الحاصل، وما نريده الغد، وأؤكد أن الذي يجري آني لا ريب فيه ولا مراء، فالذوق والتهذيب هما الميدان الأكبر للثقافة وإشعاعها، وهما المظهر الأعلى لحضارة مجتمعنا.

 الذوق والتهذيب لا يحضران إلا من خلال اعتناق بنود الأخلاق، وهنا أقف معتبراً أن الأخلاق مشكلة مشاكل العالم الحديث، قيمة وأهمية ذلك أنها محك القرائح والأذهان والضمائر ومجتلى الحياة العميقة للمجتمعات والأفراد، كما أن آثارها واضحة ظاهرة، وعند تدميرها تكون تهتكاته مشاهدة وملموسة في نفوس ووجوه وحواس المتحركين من جنسنا البشري، وآثارها خطيرة وباعثة على القلق، فالواقع العربي بشتى مظاهر الحياة الفردية والجماعية يشير إلى انحدار هائل نحو إضعاف آليات الذوق والتهذيب، كما بتنا نشهد ضعفاً مريعاً في الذائقة البصرية والسمعية واللغوية من خلال ما نتابعه عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ولذلك أجد أن التهذيب يعني ناقلاً عن فلسفة الحياة وبنائها الذي لا يحتمل الكذب أو النفاق أو التزوير، ويبرأ من أغلاط الغش والتلاعب على الجهد الإنساني الصادق الذي يجهد للابتعاد عن كل ذلك.

في بلادي تجد الألم واسعاً وعريضاً والأحزان ممضّة، رغم أن الأنفاس رقيقة لدى شعوبنا، تطلب من العرش التوبة، ترسلها صعداً ولكن بشكل فردي وأناني، وتجد معها قمم جبالنا وسفوحها نضرة، تمثل حقائق ملموسة تملؤها الأوصاف، وكأنك لم تشاهد مثيلاً في هذه الدنيا، لكن كبطل لديه القيود السخيفة التي تفرضها عقلية الأفراد القادمين من التقوقع والانحصار لا تنهي فقط عملية التذوق لديهم، وإنما العقلية الكلية للتذوق العام، فالمرونة تعتبر وسيلة المفاجأة، وإذا جمعت إلى مفاهيم التراث ظهرت منها الشخصية الثقافية الراقية وهنا يمكنني القول: إن الذوق يتدخل في كل شيء، الملبس المأكل والمشرب والإتكيت والبروتوكول والعمل والجنس والدين والإيديولوجيا السياسية، هذه التي تخص كينونة الإنسان بسيطاً صغيراً أو كبيراً أو قادراً على فعل أي شيء، لأن الذوق العام يحضر من تنوع الثقافات وتبادل معارفها وخبراتها مهما كانت تحمل من أفكار روحية أو إيديولوجية، ما يعني أن الهدف الأسمى هو الارتقاء والتطور لا الانعزال أو التمرد.

كأني بالقارئ وقد أثاره حب الاستطلاع، فجاء يطالبني بشوق واهتمام سائلاً: أراك قد اخترت الذوق والتهذيب موضوعاً لمقالك دون سواه، وحتى أجيبك عن طلبك وأبين لك الغاية من اختياري أريدك أن تتابع المجتمع والأمة، وتنبّه إلى ضرورة يقظة الروح بالشرق العربي الممتلئ بالمحبة والإيثار والنخوة، وهذا ما يهمني، لأن أفكار أجياله القادمة امتلأت بالثورات المفقرة للفكر والحروب المقيتة التي أيقظت مخاوف الألم والموت، وأحزنته الزهور الذابلة، فذبلت حياته معها، الذوق بحدوده الدنيا يجذب الآخر، فكيف به إذاً من الدرجات العليا التي تتزين بالنبل الرفيع؟ وكيف بالناظر لا يقدم مشاعر الاحترام نحوه، فالهيئة جميلة بما تنضح من أخلاق، لا بما تملك من مال، أو تلبس من فاخر الثياب، على أهمية الكرم والملبس في تناسق اختياراته.

الذوق والتهذيب ليسا خدعة أو كذبة، سرعان ما يتم اكتشافهما، إنما ثورة من ثورات الجمال، وكلما نجحت المجتمعات في امتلاك تقنياتها حققت النجاحات لما تمتلكه من الجاذبية الخلاقة، التي بها وحدها تستعيد أنفاسها، وتزيد من تفاؤلها في الحياة، لما تضفيه من خير وجمال.

 هل نتجه إلى مفاهيم عنواننا، ونتخلص من ذاك التناقض المريع بين الجوهر والمظهر، بين المادي واللا مادي؟ وهذا لا يعني أيضاً أن نجيد فنونهما على حساب إجادتنا لتخصصاتنا العملية أو مهننا، ويجب أن ننتبه إلى أن ليس ما تراه العين من مناظر خداعاً أو حيلاً بارعة، بل إن فيها الكثير من المشاهد الحقيقية التي قاسى الناس كثيراً خلالها، ليحققوا النجاحات اللافتة للنظر، فهل نصل إلى ذلك؟ ولدى الجميع المقومات فقط أن ندرك القيمة والقيم، فنرتقي ونصعد ونسير إلى الأمام.

 

 د. نبيل طعمة