تنظيم المجتمع

تنظيم المجتمع

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٩ أغسطس ٢٠٢٠

لا يزال هذا العنوان الذي يتخيله الكثرة بأنه بسيط من أصعب المشكلات التي تواجه الأمم والدول، من تكوينها وحتى اللحظة التي تدور في فلكها، وهي وحدها تدعونا كي نجد لها حلاً، بحكم أنها المشكلة الرئيسة التي واجهت تفكير الساسة أصحاب الصلة الوثيقة بالتفكير، أي كيف بهم يجمعون فكر كل فرد إلى الآخر في بوتقة واحدة، وإذا كان من أهم مهام السياسة أن تعنى بتنظيم خبرات مجتمعها تنظيماً يقوم على استدعاء خبرات الفكر وتوظيفها في محوري الحفاظ على الإنتاج وتطويره ووأد ظاهرة الكراهية والعداء التي تنشأ بين الأفراد والمجتمعات، وتحويلها إلى عمليات تنافس خلاقة وبناء أخلاقي وجمالي ذي سمات إبداعية، ما يؤدي إلى أن أحدثت عملية التحويل لظهور علم العمل، ومنه تتولد لغة التطور بأبعادها النفسية أولاً ثم التحليلية، ويبدأ التخصص الذي تظهر نتائجه بعد حين مبهرة وأقرب إلى الكمال.

وإذا أدركنا ذلك فعلينا فهم طبيعتنا السياسية التي تدلنا عليها أن أساليبنا السياسية العربية تعتبر في السياسة الدقيقة أساليب صراع هذا أولاً، وثانياً أننا نتقبل هذا الصراع على أنه قضية مسلم بها، وهذا ما يثير دهشة الدول المتقدمة مع الباحثين والمفكرين المتفكرين محلياً ودولياً في شأننا، ونادراً ما نشهد في دول أمتنا تنظيماً يستند إلى الخبرات والخيرات، يقوم من خلال دراسات وطنية خالصة، لذلك بقيت الصور التي تحظى من أبناء الأمة بالقبول صور الصراع والاستئثار، وهذا إن دل على شيء فهو يعني الاقتصار إلى سعة الأفق والشعور بالمسؤولية الوطنية تجاه مجتمعاتها ودولها، وهذه الصور التي تنذر بأعظم الأحوال وتفقد إنسانها معايير الشرف الوطني والشرف القومي بعد أن تظهر تعطش الإنسان الدائم للمال والسلطة والدماء، ما يدعونا لنسأل أنفسنا: هل يحيا الإنسان من أجل تقتيل أكبر عدد من إخوته في الإنسانية؟ وكيف يقدر هذا الإنسان على العيش بسلام دائم مع غيره من جنسه البشري من دون قتال؟ هل العادات والتقاليد والمورثات وعدم فهمنا لقوة المؤثرات الاجتماعية والروحية مسؤولة دائماً عن تطور أعمال الصراع والاستئثار؟ هل توقفها القوانين المادية والشرعية، إضافة إلى تطوير مفاهيم القيود الاجتماعية؟

 إن أعتى مشكلات السياسة الآن وأشدها إلحاحاً في وقتنا الحاضر تكمن في منع وقوع الحروب، هذه التي وحدها تقضي على مستقبل الإنسان والإنسانية، حيث لا يتحولان إلى صمت عن الكلام وتوقف عن الأداء، بل يغدو الجميع أبناء مجتمعاتهم عاجزين عن بناء المدنية أو تطويرها، مادامت المعالجات لا تكون في أضواء الحقائق، إنما تستند إلى الأهواء الممتلئة بالأنا والعقليات الحزبية المنغلقة على ذاتها والتشريع الديني الماضوي وتوخي الحكمة والتعقل ونفاذ البصيرة وتفوق اللا حزبية واللا دينية على الحزبية والدينية أثناء بحث المسائل الاجتماعية، كل ذلك من أجل إعادة رسم البناء الاجتماعي وتنظيمه، هذا الذي يؤدي إلى الإصلاح وتحقيق الإفادة العامة.

 أليس غريباً ألا نفرد واقعنا على طاولات البحث؟ أوَلم تقم أغلبية ساساتنا وإداراتنا بالتجول في دول العالم من أمريكا إلى اليابان، ومن روسيا إلى الصين، ولو أن كل واحد منهم استلهم فكرة مفيدة وعمل على طرحها وتنفيذها في واقعنا لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه.

 هل المشكلة في بصرنا أم في بصيرتنا أم في شهواتنا المادية، المال والجنس والخمرة والتشدد الديني المسكون في أعماق الكثرة رغم التألق والادعاء بالعلمية والعلمانية؟ كل هذا ونحن نعرف الحق ولا نقربه، وندرك الخطيئة ولا نصلحها، ونعلم ظلمنا للمرأة ولا نرفعه عنها، ونعرف الحقوق والواجبات، لكننا نطالب غيرنا بتحقيقها، ونتحدث عن الاستقرار والسلام، وعن التطور والعمل والإبداع، حتى بتنا أمام من يسمعنا أننا في مصاف الأمم، فهل نحن على هذا القدر؟

لقد بلغ الصراع السياسي العالمي اليوم أوجه، وغدت خطورته حدوداً تدعو البشرية للتوقف عندها بسبب شعورها بأن البقاء الإنساني وإنقاذ وجودها أهم من أي اعتبارات أخرى، وهذا لا يكون مرة ثانية إلا عبر البحث في أسس تنظيم الموارد المادية والبشرية والاستفادة منها بالشكل الأمثل، مع تنمية طاقات الإنتاج الوطني، فما أحوجنا اليوم للتقدم عبر دراسة واقعنا وامتلاك أسس تنميته اقتصادياً بعد الوصول إلى فهم مقتضياته وأبعاده فهماً حقيقياً. كيف بنا نحتفظ بأجزاء من شخصيتنا العربية التي تؤمن بالعروبة والقومية أمام أضواء الآخرين التي غدت أكثر من مبهرة أمام ما يفهمه الزائرون والعابرون والمراقبون المتابعون لمسيرة وجودنا.

كم الحاجة ماسة لإعادة التوازن للمجتمع بعد وضع أسس متينة تظهره منظماً أمام ما نشهده، فالعالم ومع كل صباح يصغر ويتضاءل، والشعبوية غير العاقلة تزداد انتشاراً، وبدلاً من أن يلتف الجميع حقيقة وواقعاً تحت إزار الدولة، نرى الفردية تطفو على السطح، وكل فرد يريدها على صورته ومثاله، وكأن بكل منهم يريد إقصاء الآخر، وأكثر من ذلك التطهر منه، وعندما أطالب بتنظيم المجتمع أقصد به أن يكون تنظيماً وطنياً يقوم على تنقية أبناء مجتمعنا مما علق بذهنيته من أدران التشدد الديني والطائفي والعشائري والقبلي، وإذا لم يتبلور الشعور بأن المتغيرات الواقعة والمنطقية حاصلة، فإننا لن نصل إلى مفهوم الوطنية في بناء الدولة المتينة.

 دققوا فيما أقول وأسأل: أين شأننا اليوم بين الأمم؟ وأين مكاننا ومكانتنا في مسيرة الإنسانية الخلاقة؟ ألا يصرخ شعبنا البسيط منه والعتيد والمثقف والمتعلم والجاهل بصمت قائلاً: أين نحن؟ ألا يسقط خطأ فرد واحد الجميع؟ وهل وصلنا إلى معرفة الحق؟ هل الله أم الموت أم الوجود بما يحتويه؟ ألا يشعر الجميع أننا نقبع في جاهلية القرون الوسطى؟ حيث مازالت نيران القبيلة والعشيرة والطائفية المقيتة ملتهبة أو خامدة تحت ركام أزماتنا، لا تنتهي حتى تشعل من جديد، هل يكره شعبنا الرفعة والمجد والتطور والتقدم؟ كيف بنا نحدث هذا إن لم يكن لدينا تنظيم فكري يؤدي إلى الوصول إلى التنظيم الاجتماعي؟ وكيف يتم النهوض من دون ذلك؟ أليس غريباً ألا نتحدث عن الألم الفكري والوجع البصري المعيش والمشاهد، والعالم من حولنا يتسابق لنشر ما وصل إليه من تمدن وترف نحو الأفضل، وكأننا كالأموات فكراً وأحياء جسداً، نأكل ونشرب ونقلد، كسل ونوم وفساد وخمول واتكاء على الله وعلى القائد بكونهما وحجمهما القادرين على كل شيء، ونحن من تحتهما وخلفهما نفعل كل ما يعيدنا إلى الوراء.

العالم الغربي بشكل خاص قام بفعل الاستشراق، وغايته كانت استلاب فكر الشرق الذي خالطه مع فكره بعد أن عالجه بدقة، فتغذى منه عقلاً وروحاً وجسداً، ألم ندرك ذلك بعد، وقد ترك لنا التخلف؟ بل عاد يصدره لنا، ونحن نتقبله، ورحنا نتقاتل ونتصارع ونكفر بعضنا، واتخذنا الموت شهادة ونصيباً بدلاً من فهمنا للحياة وضرورة البناء فيها، إذا عملنا فأعمالنا مؤقتة وآنية، لذلك لا نجد الاستقرار، ولم نهتم لا بالبشر ولا بالحجر ولا بالنمو ولا بالحقوق، كيف بنا نصل؟ إلى أين.. لم أعد أدري؟ لأن الفوضى الفكرية مسؤولة عن الانفلات الاجتماعي هذا الذي يفسد كل شيء.

منذ 2011 توقف كل شيء، أرادوه أن يكون حسب أهوائهم فكان، توقفت النهضة التي كانت سائرة بعزيمة كبيرة، معها قيامة بنائنا التي أدت إلى تأخرنا، وأسبابها الصراع على كل شيء، نما الجهل بشكل مطّرد، عمّت الحرب وانحسرت عبر عشر سنين، لكننا نحيا تداعياتها وروافدها، ودخلت الأمم على اختلافها بيننا، والأسباب أننا فقدنا قيمة كبرى، وهي ائتماننا على الوطن الذي يعني أغلى ما نملك وأكثر. 

 د. نبيل طعمة