القنبلة السكانية

القنبلة السكانية

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٣٠ أغسطس ٢٠٢٠

لا يقدر الإنسان على العيش ومواصلة حياته من دون إنسان من أجل استمراره، لكنه مع الزمن وتكاثره اللاواعي حوّله إلى قنبلة حاملة لآلاف القنابل القابلة للانفجار على الكوكب الوحيد الحامل له حتى اللحظة، مظهرة رغم تقدمه على جميع المخلوقات التي وجد لها نظام التوازن البيئي قبل تعدي الإنسان عليها، أي ضبطها فمنع بذلك انفجاره، وقدم فائضها إلى الإنسان ليستفيد منها غذاءً ولباساً وركوباً وتمتعاً، وأبقى الإنسان فكره المطالب بالبحث عن الحلول التي على ما يبدو لم يجدها حتى اللحظة، فكان تخلفه في موضوع التكاثر يلتهم تطوره، وراكم أخطاءه في هذا المنحى حتى وصفت بالوحشية التي كانت نادرة الحصول وتحولاتها إلى الطبيعية وضحاياه الأهم حبس الإنسان بكل أعماره.

 دققوا في أحوال الطفولة وفقدان كثرتها للبراءة المحببة واختطافها جنسياً وشبكات الاتجار بالبشر وبأعضائهم والشباب وموت أحلامهم وتحولهم إلى المثلية الجنسية والرجولة وتشويه قيمها نتاج الحاجة والفقر والكهولة وآلامها وأمراضها وتشرذم الأسر وانتشار مقولة ربي أسألك نفسي، ناهيكم عن صراعاتها والدعارة وغض نظر الآباء والأمهات والإخوة وحتى الأزواج لضرورات تأمين العيش واستمراره، ولو على حساب القيم والمبادئ والفساد في كل شيء، ومنه تعميم الكذب والنفاق والغش رغم الالتزام بالصلوات والصيام في المعابد على اختلافها.

عالم امتلأ بالإنسان على حساب باقي الأجناس التي تضاءلت وبدأت في مرحلة الانقراض، وبتكاثره الهائل أخذ يغض النظر عن كل شيء، كرامته وشموخه وكبرياؤه، ولم يعد يتكلم عن أي شيء، وغدا لا يعرف من أين يبدأ، وإلى ماذا يشير، وقضايا الادعاء بالاعتداء غزت المحاكم كالجراد، ووثائق الإدانة تجاوزت كم البشر، وأصبح لكل فرد العدد من التهم التي تدينه بالإساءة، والقاسم المشترك بين الجميع أنهم متهمون، والندرة بريئون، وهذا ينسحب على إدانة المجتمعات والدول لبعضها، وبالتالي غدا الكل خائفاً من نصوص المحاكم الوضعية، ولا أحد قادر على الهروب من مخالفاته غنياً أم فقيراً، مسؤولاً أم عادياً، أبيض أم ملوناً.

ووجد الجميع ضمن أطر براقة اسمها الحدود، لها بوابات كالسجون، تجسد دولاً تتحرك ضمنها البشرية المصرة على المراوغة رغم وقوعها في مستنقعات اللا أخلاق وتعزيزها لحالات العزلة التي تقتل الإبداع بدلاً من أن تظهره وتسمح بالانفلات، وتعتبره ضرورة من أجل السيطرة عليه، على الرغم من أن صورة الإنسان الحالي المعاصرة، وأنه جماهيري واجتماعي المظهر، لكن جوهره يصرّ على الاتجاه للوحدة ومحاصرة ذاته والابتعاد عن الآخر، والسبب أنه وصل إلى حقيقة الخوف الذي يشكل معضلة التطور في حياة كل إنسان، الخوف الذي يسكن بين العقل والعاطفة، وينتج هيمنة الصراع على الاتجاه إلى أين؟ منتجاً الألم المستمر القاتل للحب، المؤمن بالحياة والحنين الطافر الموجع لواقع مفقود ووجود متخيل، تداعيات انفجار هذه القنبلة البشرية وأهدافها واضحة، لأنها مستمرة، ومنها إنهاء كل مشاعر وآمال زراعة الفرح وحصده لاحقاً وتدمير بناء الجمال وصولاً إلى حياة ممتعة، ورغم كل ذلك فتفاؤلي كبير، وأنا تجاوزت الستين من العمر، راقبت وتفاعلت وشهدت متقلبات الحياة المحلية والإقليمية والعالمية، وزرت أكثر بلدان كوكبنا الحي، من أمريكا حتى اليابان، وتفاعلت متنقلاً بين الأفكار الإسلامية والديالكتيكية المادية والوجودية، ودخلت المعابد البوذية والكنس والكنائس، ودققت في الإيديولوجيا الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية الرأسمالية، والرأسمالية الإسلامية والمسيحية، وفهمت إلى حدّ كبير فكر البعث العربي، ودققت عند الجميع، فوجدت الكم الخائف، والخوف يوجه دائماً إلى الخطيئة، وهذا ما يفوق المعقول، ويتفوق على المنطق، وسألت الكيف السياسي والديني، لأنهما المتحكمان بحركة المجتمعات، ومعهما الكيف الاقتصادي والفكري والثقافي، فوجدتهم جميعاً منشغلين بالحفاظ على ما هم عليه، ويحملون الخوف ذاته، ولكن على ما وصلوا إليه خشية فقدانهم، فأوقفوا بذلك التطور، وسمحوا للجهل والانفلات بالتقدم، فلا تفاهم ولا حوار بل الكل يحيا فلسفة النفاق.

هل يمكن أن يكون لدينا حل؟ أقول يمكن بالتفاهم العرقي والتفاهم الطبقي واستيعاب التنافر الديني والتحلي بالمسؤولية أمام ما يصيب إنسان عالمنا القائم، الذي أصبح عرضة للتجارب، والغاية الدائمة إيقاف تكاثره، هذا الذي يسبب ردات الفعل عند عالم الجنوب، حتى وإن تواجه أفراده في عالم الشمال، فإنهم يسحبون عاداتهم وتقاليدهم وتكاثرهم إليه، وهذا ما أدى إلى إضعاف لغة التعاطف، وطورت الأحقاد بين الشعوب والمجتمعات والمعتقدات وحتى الأفراد، ورغم كل التطور العالمي واستمرار الدعوات للعيش أو التعايش بالطرق المتحضرة للحد من العنف والتطرف والاعتداء ومحاولات توحيد الإنسان فكرياً بعيداً عن اللون، إلا أننا نجد أن كل هذا يتصاعد وبشكل مذهل، وللأسف تحت مسمى العدالة الدولية والاجتماعية والقوانين الوضعية، فلا توازن بين المرأة والرجل، ولا تجانس بين الأبيض والملون، والهوة تتسع بين الفقراء والأغنياء، والقوة تهيمن على الأضعف دون البحث عن شرف المسؤولية الإنسانية أو صناعة نماذج من أبطال إنقاذ الحياة البشرية، فالثقافة الإنسانية دخلت غرفة الإنعاش، والتراث اللامادي تاه بين أقدام الحداثة والمتحدثين، صدمات حياتية تتوالى كأمواج البحر العاتية، حيث لا جزر فيها، حساسيات مفرطة تجاه المسنين، وضياع في لغة الأجيال، وفقدان لروابطها.

هل يقدر العالم على توليد مرحلة جديدة؟ يجعل من الشباب عصب خططه الإستراتيجية بعد تمكينهم علمياً ومعرفياً وصقل مواهبهم وتوجيه طاقاتهم؟ هل يستطيع العالم خلق بيئات ثقافية خالية من التلوثات الفكرية الفاصلة بين الأجناس والألوان والمولدة للعنصريات المتتابعة؟ هل هناك من إمكانية لإنجاز معاهدات سلام حقيقية لا وهمية، تحفظ الحقوق، وتصون الحدود، تؤمن الاستقرار، وتدفع بالنماء المتوازن الذي ينجز التكامل بين الشعوب في الاقتصاد، فيمنع بذلك الحروب والتنافس غير الشريف؟

شيزوفرينيا غدت أكثر من خطيرة، تنتاب الفكر السياسي العالمي، فهو ينادي بالديمقراطية، ويدعو إلى الوطنية، وفي الوقت ذاته ينشر الخراب والدمار والقتل، ويطور في البيولوجيا القاتلة، من السارس إلى كورونا، مروراً بكل أنواع الإنفلونزا الطائرة والدابة وجنون البقر، فكر سياسي عالمي يتلاعب بمفردات الأديان، ويضع الفواصل والنقاط، ويرسم إشارات التعجب، مشجعاً إياها على انتهاك بعضها، كما نجده يدعم الأقليات والقوميات، يلعب بالألفاظ، منبهاً العواطف، ومحركاً المشاعر، وفاعلاً خفياً وعلنياً على زيادة الجهل وتعميم التجهيل، وبالنتيجة السيطرة على الشعوب، ومن ثم محاولة القضاء عليها.

رؤية أقدمها للممسكين بزمام الأمور، علهم يوجهون بإقامة حاضنات إبداعية للأجيال الشابة، تفسح من خلالها مجالات تطوير وتحقيق نجاحاتهم ووضع مسارات ورؤى للقطاعات الإنتاجية؛ زراعية وصناعية ومالية واجتماعية، ووضع إستراتيجيات وطنية لا تقليد فيها، قابلة للتطور ورسم خرائط سكانية، تجذر الأرياف، وتنهض بها، وتربطها بالتنظيم التناسلي للأسرة، لنبدأ في الحد من آثار انفجار هذه القنبلة البشرية، التي إن استمر انتشارها فستأكل بعضها دون وعي، لأن ما يجري الآن هو اعتداء بين البشرية على بعضها، والقادم أعظم.

 هلا تفكرتم في معنى الآية المقدسة (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر)  أي إن التكاثر يزيد الشرور، وينتج الجرائم والحروب والأوبئة والأمراض، فتلتهي البشرية للبحث عن مقابر وقبور، كما نرى الآن نتائج فايروس الكورونا، كلما تكاثر البشر تكاثر الموت.

د. نبيل طعمة