العري واللباس

العري واللباس

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ١٣ سبتمبر ٢٠٢٠

خُلقت الحياة بأجناسها عاريةً، ومن ثم بُدئ إلباسها، وبشكل خاص منها إنسانها ومنتجه الروحي والمادي، وكيف بدأ بنفسه بعد أن أعلى شأن المقدس الذي أرخى عليه بظلاله الحميدة بعد أن قال له ولأنثاه "هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن"، ولم يقصد بذلك فقط ستر العورات، لأنهما سيكونان عراة فيما بينهم، والأسرار والأحلام والأفكار إنما تهذيب الحياة الإنسانية بمجملها والإبداع الذي تم وتحول إلى لباس كان لإظهار حضور الإنسان وتجميله ولستره وإخفائه القبيح منه، وأيضاً ألا تعينه على العصمة والعفاف كما صورها بعض المفسرين أيضاً على أنها عناوين لبعض الفساد والغواية، وفي حقيقة الأمر أنها عودتنا أن نغتر بالجمال المموّه، ونعرض عن الجمال السليم، وهي التي سترت فيما أطلق عليه العورات، وغطت على ما فيه من معاني الفن وتضاريس الإبداع، وإذا عدنا إلى العري لوجدنا من بين ألفٍ أنثى مكتملةُ الجمال، ومن بين ألفٍ ذكرٌ خلا من العلل، ولوعدنا إلى التعري لكان اختفى التشوّه، ولم يبقَ إلا الجمال المكتمل، أو لذهب الجميع إلى الإصلاح، كما يحدث اليوم للوجه العاري، ولمفاصل الجسد المختبئ، وتحت الملابس، وهنا أرى أن العري أفضل من لباس وجد ليغري، أو ليداري القبح، ولا يظهر الجمال، ولو عاد الخلق إلى نشأته العارية التي كانت لا تلتفت إلى جوانب الشهوة، ولا تغرم إلا بالجميل الوسيم منها، فلما تدثروا باللباس اشتهوا ما يشتهى، وأغراهم الحجاب بما كانوا عنه معرضين.

العري البشري أقرب النماذج والأمثلة للطبيعة، فالتجرّد من اللباس طابع واقعي، يفقد سلطته الدنيوية السفلى، ليتقلد سلطة من نوع آخر، ربما تكون روحية أو غيرها، فتظهر مباينة للأولى، والمثول العاري الأول كان أمام الإله، أدع لكم التفكر فيه، ومن ثم الغواية التي وقع بها الإنسان من إبليسه الذي جسد ذلك بالتين والتفاح، ولاحظوا معي أن العري عبر الأزمنة حصل على درجات مهمة في الفن والعقل الباطن للإنسان، وسجل فضاءً فكرياً وبصرياً مذهلاً، فاق الرموز الدينية والروحية، مؤلفاً أجساداً للفضائل والجرائم والمفاهيم والافتراضات والخرافات، فهو هبة المخلوق والطبيعة معاً، ثم حمل بعد أن ألبس مسميات الخمر والنساء والغزل والمغامرة والمعجزات والأسرار والشعوذة والهتاف والتأييد والظلال والضوء والنور والابتسامات والدموع كلها ألبسة، حتى الولادة والموت لها ألبسة، فماذا تستر تحتها؟ ومن صاحب فكرتها؟ وما الأهداف المنشودة منها؟

يقال: إن لإبليس اليد الطولى في اختراع الملابس للإناث والذكور والإبداع فيها وتطويرها، من أجل إغواء البشر لبعضهم، وتحكي لنا الأسطورة الأرباب والخلق العاري للإنسان، وفي لحظة حوار فيما بينهم كانوا يتحدثون أن الخير في أن يبقى هذا الجنس عارياً، كما هو حال السماء والماء والأرض، وأن مرور النبات في كل سنة بمرحلة العري هو من الضرورة له بمكان، لأن نظرية الأرباب تقول: إذا لبس البشر الثياب، وقبلوا شريعة الأخلاق داخلهم الكبرياء، وخامرهم الرياء، وغلبت عليهم القسوة والجفاء، في أثناء ذلك تمر أنثى فيصفون جسمها بأنها ليست بأوسم ولا بأقبح من سائر جنسها، فهي تتلكأ في مسيرها، وتحك ظهرها بأظفارها، وتضع إصبعها في أنفها، انظر إلى ضيق كتفيها، ودمامة قدميها، وسمنة أعضائها، وقصر ساقيها، وهذا أيضاً الذي خلفها من جنسها، كيف تصطك ركبتاه، وبشاعة مفاصل جسمه، لنعد إليها كيف تختلج عضلاتها في الحركة، وكأنها آلة صنعت للمشي، وليس لها علاقة بالحب والغرام.

بعد هذا كان إبليس يسترق السمع، فسارع إليها، أخذها وألبسها وزيّنها وجهزها وعلمها كيف تزن خطواتها، وتهز ردفيها، وأعادها من حيث بدأت مسيرها، فلم يبق أحد إلا وتبعها، يريد وصالها، فاستغربت الأرباب، وعرفوا أن إبليس ابتكر ذلك، ليخلع فتنة اللباس على الإناث بشكل خاص، ومن ثم على الرجال، ومنها أدرك الإنسان ما تصنعه الألبسة بالنساء والرجال، محدثة السترة "عن ماذا" والسرور، وأن لإبليس اليد الطولى في صناعة الثياب وإبداع الأزياء، والباقي للإنسان الذي لابدَّ له أن يضع شيئاً من نفسه في ملابسه، فإن كان ممن يعنون بها ففي تلك العناية دليل على ذوقه وخلقه وتفكيره، وإن كان ممن يهملونها فإنها تكشف لك عن ظروفه وهموم فؤاده وشواغل فكره.

 سألت ذات مرة "شيخ كار" الخياطين: من يتعبك في تفصيل ملابسه؟ فأجاب بسرعة أولئك الذين لا يبدو عليهم أنهم يحفلون بملابسهم، والناس أذواق، فذاك الذي يلقاك بلون من كل لباس ومناسبة، وهذا الذي يحب اللون الواحد ولا يحيد عنه كما هو الحال عند العسكر من الجيش والشرطة، فيقلدهما نظراً لامتلائه بالغرور وحب المظهر، وقلما اختلفت الأمم قديماً في شيء اختلافها في الثياب، وإن حصل فله أثر ينطوي على الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو السياسة والعادة والحكم والدين والتفكير، وكل له لباس الملك والأمير، والسفير والوزير، والغني والفقير، والكبير والصغير.

 إن نطاق البحث في العري واللباس وصل إلى سؤال كبير: ما لباس المكوّن الكلي؟ وهنا أقول: إن اللباس صفاته التسعة والتسعون، هذا بعد أن وصل العقل الإنساني إلى مناهج التوحيد التي لم يستوعب الإنسان حتى اللحظة قدراتها، بينما كان قبل ذلك لباساً خاصاً بآلهة الأولمب في أثينا وروما وآمون وتدمر وإيبلا وأور وبابل، أي زيوس وبارس والآلهة أفروديت وهيرميس والآلهة أثينا وأدوات زينة وأدوات قتال خاصة بهم ولشعوبهم غير ذلك من مبدأ أبناء الله أو عياله وشعبه.

إن اللباس زاد من عوامل الإغراء، ولم ينقصها، وأضعف الصيانة الإنسانية، ولم يحصنها، وصحيح أن الإنسان بجزأيه الذكر والأنثى يستر بها قبحه، ويفسح للخيال مجال التصور والفتنة، وهما أغرى من الواقع والحقيقة، فعري الأنثى والرجل لا يغري بقدر ما يغري اللباس الفكر.

 تأملوا فيما أقول: المرأة العارية لا تغري، وعندما تلبس يتحرك التشوّق إليها، وكذلك الرجل، والجنس لا يغري العقل إلا إذا تحركت الشهوة، وصعدت إليه، وسيطرت عليه، فإما أن يكون جنساً حيوانياً أو يكون حباً نوعياً، يصل إلى النشوة بكامل أبعادها، وإذا قلت إن للأخلاق علاقة باللباس فليس الذي أريده صون العفاف وقمع الشهوات، إنما نريد الأخلاق بمعناها الواسع النبيل والصادق، وصحيح أن عبقرية الإنسان اتجهت إلى الطبيعة والبناء، وأبدعت فيما استخرجته منها، وصنعته له ولها، إلا أنها يجب ألا تقل في اقتدارها على تجميل الإنسان لنفسه بتثقيفها ورفع الذائقة الجمالية لها، وإذا كانت الملابس وكما قلت معادلة كيميائية وحالة فيزيائية، أي في الجوهر والمظهر، ونتاجها ينعكس على حضورها، فتكون كما الفلسفة والشعر، والعلم والدين، والكفر والإيمان، والضجيج والسخرية والجد من كل شيء، ومن لا شيء، وإذا كنا نسعى لفهم العبقرية أو اكتسابها بإرادة توريثها للأجيال، فالأجدر أن نجتهد معها لتطوير الأذواق الحسية التي غدت أكثر من مشوهة والتنبه إليها وتوريثها.

العري واللباس يجب أن يجسدا مبدأ الحب، ويعبرا عنه، ومن ثم التأسيس لبناء السعادة والبهجة والحركة اللطيفة، هكذا يقف العري عبر الأزمنة على سلالم الجمال، محدداً أوجه الآلهة، ومؤلفاً أجسادنا للفضائل والجرائم، وواضعاً أسساً للمفاهيم والافتراضات والخرافات، مستوعباً الألبسة من أجل إبراز الكياسة والإنسانية، وبهذا يفرض حضوره على أنه هبة من هبات الطبيعة، والمعتبر منه يشكل الواقع الجوهري للعالم وقطب المظاهر التجسيدية للفلسفة المتجددة.

د. نبيل طعمة