طموح الشباب

طموح الشباب

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٠

ومعضلات الرجولة مرحلتان، لابدَّ لكل المخلوقات الحية من المرور بهما وصولاً إلى الكهولة، وعندما أبدأ بالشباب أشبههم بالفكرة الأولى التي تفتقد للحكمة المنظمة وعدم القدرة على استيعاب ما تمتلكه من دقة، فتكون فيهم مترافقة لأعمارهم المترعة بالطاقة الحركية والجنسية والفتوة والحب السريع للتعلم، مع البحث عن شريكة.

 ولنعترف أن للشباب مبتكرات أيضاً بحكم سرعة بحثهم عن تطوير وجودهم في الحياة واستعجالهم الوصول بلغة أريد إلى ما يراد،  وكذلك أخيلتهم الواسعة والكثيفة، بل تستولي عليها شهواتهم المتسرعة في كل الاتجاهات التي تظهر عدم تدرّج في أعمالهم، ومع كل ذلك أجدهم أي الشباب قادرين على الإبداع أكثر بكثير من قدراتهم على الحكم والتقدير، ومستعدين لتنفيذ النوعي والمفيد أيضاً أكثر من الأخذ بمشورتهم والتخطيط السديد، وتكون أخطاء الشباب وبالاً على العمل، وإصلاحها يكون من الصعوبة بمكان، أما أخطاء الرجولة أو الكهولة فإنها تفتقد للمزيد من القدرات وزيادة السرعة، لأنهم كثيراً ما يعترضون ويتشاورون طويلاً، ويقتحمون قليلاً، ويسرعون إلى الندم والنكوص، وقلما يدفعون الأمور إلى أقصى غاياتها، ويقتنعون بالدرجة الوسطى من النجاح، على حين يطالبون الشباب بالنجاح والوصول إلى الدرجات العلى، والحل يكون في أن يلتقي الجيلان ويندمج النهجان، ففي التقائهما إنجاز إيجابي للحاضر ومهم للمستقبل، فإذا تعلم الشباب تحت مظلة الكهولة تتوالد فيهم الثقة، وتتقوى الحجة القادمة من الخبرات، وتظهر الشهرة، وتعلن الخطوة التي تراقب تحركات وإنجازات الشباب الناجحين، ما يخفف من أحلام المعادلة القائلة: لو أن للشباب عقول الكهولة، والكهولة تتمنى امتلاك أقدام الشباب، فالترجيح العقلي يكون دائماً للكهولة بحكم تراكم الخبرات، وخاصة في السياسة والاقتصاد، وهنا أتحدث عن أن الأذكياء من الشباب يستخفون أحياناً بالدراسة، والسذّج منهم يعجبون بها، أما العقلاء فهم الذين يستخدمونها ويحصدون نتائجها، وأيضاً هنا أؤكد أنه لا ينبغي معارضة الشباب ولا  الدخول معهم في جدل عقيم، إنما محاورتهم، ومن ثمّ وزن منتجاتهم الفكرية والمادية، ومن ثمَّ دعوتهم لاقتباس الحكمة من التاريخ وتطويرها، والفطنة من الشعر والأدب، والدقة من علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات، والعمق والرصانة والمنطق من الفلسفة والأخلاق من علوم الطبيعة، فيرتقي الفكر، ويختلف الزمن، وبهذا يتقلص الفارق الزمني عند الشباب الذي تعوضه الكهولة بخبراتها المضافة إلى الرجولة.

الشباب يعتبر أن الحياة امرأة ومبارزة ومسرح لا يمثل عليه الأحياء، كما يجب أن يكونوا؛ بل ما يجب أن يكونوا هم عليه، وهنا تكون مهام الرجولة والكهولة التي تتجلى في الكيفية التي تنمي فيهم المواهب، وتعزز أحلامهم وأنشطتهم وتوجهها نحو النجاح.

 ربما تجدني أيها الإنسان المتابع للحياة بارتباك أنادي على الأجيال، وأربطها ببعضها، كما أنادي على الشاردين عن سبل المنطق الصح بضرورة مزج العلم بالحياة والتأمل فيها، ومن ثمَّ ليس الخروج بالنتائج فقط، بل المثابرة على إنتاجها، فالخطيئة الأكبر تقع في البيع والشراء، لأنهما مولدان للكذب والنفاق وتجميل السيِّئ، ومجتمعاتنا تأسست على البيع والشراء وحلف اليمين، لا على التخصّص والإبداع، وغاية المعرفة هي استثمار الطبيعة ومواردها بالشكل اللائق لمسمّاها، وإيجاد القوانين الناظمة لها، بحيث تخدم مصالح الإنسان ومجتمعه، لأن حلم الإنسان على اختلاف أعماره يعرف أن له مدى في الحياة محدداً بداية ونهاية، والجميع يعاني من صميم قلبه مطالب الحياة ومستلزماتها، وفي النتيجة له جسد يحتويه مكان واحد وعقل يسكنه، لم يعد يقبل منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن صناعة الكلمات، بل يتجه إلى صناعة الأشياء وتعريفها، وإذا كنا نثق بإمكانيات العقل الشبابي والرجولي وقابليته على التقدم فإننا هنا نريد أن تتحرر الكهولة الواقعة بين عمر الخمسين والسبعين على طرح التحديث الواقعي والمنطقي، وهنا لا أقصد التحديث كمرداف للتقدم، إنما بكونه غدا شرطاً لازماً لأي تقدم وتطور.

طموح الشباب ليس بالتديُّن إلا إذا فقد فرصه في الحياة، ليكون التديُّن ملجأه، وكلما ضعفت آماله ذهب من خلاله إلى التشدّد، وكذلك إن ذهب إلى العلمانية ونتاج فقدانه للفرص أيضاً يذهب إلى التشدّد، وهذان الأمران أخطر ما يصل إليه الشباب نتاج ضياع الأمل، وإذا لم يذهب إلى هذا أو إلى ذاك، وبقي في الفراغ نراه يحيا بين الوحي والشجون والجنون، تتنازعه العواطف التي تثور وتزبد حيناً، وتحنق على بعضها وواقعها حيناً آخر، فإذا تعذر على أي منهم التوفيق بين تلك العواطف الجائشة أصابه اليأس المبكر، الذي يؤدي إلى الانحراف، وهنا يجب توجيه عقولهم ورفع مستوى وعيهم.

 إذاً كيف بنا نطور عقول كهول الأرياف والمدن، ونحولها من جحور للتخلف لفضاءات كحدائق القصور يلهو بها الأطفال، الذين تتشكل منهم العقول القادمة؟ عقول تتقوى بالمدنية والسياسة وفلسفة التطور والنهوض رغم ما في المدينة من فساد وضغائن، إلى جانب الارتقاء والحبور، إلا أنها تبقى تنجب تحفيزاً متقدماً وإبداعات في الرسم والنحت والموسيقا والعمارة والمكننة الصناعية والزراعية، إضافة إلى فنونها التجارية كالإعلان والإعلام والتسويق وإلى ما هنالك من فنون، إضافة إلى التشييد العمراني والإنتاج الصناعي وإبداعات في التجارة وعقلانية في استيعاب أفكار التديّن وفهم التعليم.

من المهم أن ندرك أن كل شيء نسبي، ونحن لا نعرف شيئاً قطّ إلا بالنسبة إلى غيره، وهذه بعينها حقيقة علمية، وليست بحلم أو خيال، وإذا أردنا أن نسبر التطور البشري فلابدَّ من ذهابنا إلى قصور عظماء الإنسانية، هؤلاء الذين وصلوا إلى الكهولة، ومعها هذّبوا عقول الإنسانية، وثقَّفوا أذواقها، وألهموا ضمائرها، وخلقوا لها جمال فنونها، وكشفوا أسرار علومها، وكم خسرت الإنسانية بفقدها لأولئك، وهل عوضها الشباب عن كل عظيم مفقود؟ هنا أقول: إنه ممكن، ولكن نادراً ما يحدث ذلك، وتتحدث الجمهرة الباحثة عن التطور أن نظرية الانتظار والدور والتسلسل لا تعنيها، لأن السبيل للوصول إلى الأفضل يكون بتطوير فعل الوطنية الحية، التي تلهب مشاعر الشباب، وتدفع بهم للذود عن حياضهم، وتزيد من ثرثرة الكهولة والشيوخ والتعليم السليم والمشاعر الصادقة والأمينة، ومنها نقول: إن الفروق بين الشباب والرجولة والكهولة يمكن إجمالها في فرق واحد، وهو القدرة على ابتداع سبل الارتقاء المنطقية والعاقلة، وعلى اقتحام المجهول والتغلب على الروتين والقيود.

طموح الشباب من يفتح له البوابات للعبور إلى بناء المستقبل والإسهام بفاعلية في تنمية الحاضر؟ هذا الشباب الذي يصفه البعض بأنه خامل وقليل الحركة، هو لاعب أكثر من مهم على الحواسيب، ومبدع في التفكير، وقادر وكما كتب في السياق على إبداع الأفكار وتنفيذها، إنه ينتظر الفرص وفسح المجال، وهو خطر في انتظاره إن طال، لذلك تجدني أنبه، وهذا الإحباط بدأ يتسرب إلى عقول الآباء والأمهات، والحزن على ظروف الشباب ينتاب الأهل وهم ينظرون إليهم، إذاً مسؤولية من، وكيف سيتم استيعابهم؟ يدرسون يتخرجون أو يتسربون من المراحل الجامعية أو الثانوية وحتى الإعدادية، ومازال لدينا أعداد مهمة أمية في الأرياف، والكل غدا يفكر في الهجرة والمخاطرة وصولاً إلى بلاد الأحلام.

الوظيفة لم تعد الحلم رغم أنها تسدُّ بعضاً من رمق، وجميع الشباب يسعى إليها، لأن صورتها وظيفة، وجوهرها فساد، فمن خلالها يستطيع أن يمدّ يده إن لم تتحول إلى تخصصات وأجر مقنع، المشاريع الصغيرة حل مهم، هل نندفع إليه؟ ولدينا ما نملك لتعميم هذا الحل؛ زراعي، صناعي، سياحي، تجاري، فهل أوجدنا لها سبل المساعدة والقوانين التي تحمي الطرفين الدولة والشباب، كي لا تبقى الدولة وظيفية فقط؟ فإن تحقق ذلك حدث الإبداع، وظهر الإنتاج الوطني بكامل أبعاده.

د. نبيل طعمة