الأديان إنسانوية

الأديان إنسانوية

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ١١ أكتوبر ٢٠٢٠

سأبحث معكم قرائي الأعزاء في مفاهيم تتناول الفوارق بين إسلام الوجود الإنساني وإسلام العابد والمعبد والمعبود، إنسان الإيمان وإنسان التديّن، وأيضاً الفرق بين إسلام الأئمة والمفسرين وإسلام المسالمين، الإنسان مع الإنسان، وكيف تتحقق السعادة الروحية، والله في كليته لا ينتظر من أديانه أن تنتشي فيهم عبادته، وإنما أن تتحقق السعادة بين عباده بعد أن يؤمنوا ببعضهم.

 وفي هذا الوقت من الزمن أسأل: إلى أين يتجه المرء، وكيف يحدد مسعاه ومبتغاه؟ فالهدف يحدد دائماً سمة السائر إليه، وإذا اختلفت من حيث المظهر، وأطلق عليك الناس المسميات، ومنها مثلاً عاهر أو مهرطق، فهذا لا يعني أبداً أنك اتسخت، لأن الجسد يقبل كل لامس، بينما جوهرك ذاتك وروحك، هذه التي لا يعلمها إلا أنت، أن تكون نظيفة، فإذا قبلت الخداع والخبث والشر تحولت إلى سلبي، وهنا أبين أن بين معرفة الإنسان المدرك لواقع الحياة ومعرفة الإنسان المثالي سوراً عريضاً لا يمكن خرمه إلا لمن أوتي من سعة التجربة وجودة الحدس ودقة التبصّر التي تظهر حجم التناقضات المعرفية والمتغيرات الطبيعية لصور الحياة الإنسانية، وعالم اليوم متجه إلى حياة علمية واسعة، أسسها البحث والتقصي والتجارب، وصولاً إلى إنتاج جديد، ولابدَّ لنماء ملكات العقل من التفكير الحر الطليق، كما أنه لابدَّ لحياة ملكة القلب من الشعور الحار العميق، وإني هنا أكتب لألفت نظر رجال الدين إلى ضرورة السعي إلى نشر التسامح والهدوء، لأن الإنسان الواقعي لم تعد تغريه ثرثرة رجال الدين وضجيجهم، قلّ وندر من يأبه إليه، لأن الناس كافة وعلى اختلاف مشاربهم راحوا يتساءلون عن الدين، وهل هو شيء مفيد لهم، وهل يساعدهم في حل أمور حياتهم وعيشتهم؟ أم هو طريق لحل الألغاز الكونية وسبل للنفاذ إلى المجهول؟

للعلم إن جميع الأديان تتكون من هذين الوجهين، فهي تعتبر قانوناً اجتماعياً لتنظيم الغرائز ولحفظ التوازن بين الخير والشر، ويعادلها في ذلك منظومة الأخلاق التي كانت سابقة في أسسها على الأديان، معتبراً الأديان بنداً مضافاً عليها، وكثير من الإنسان يعتبر الأخلاق أساساً لا غنى عنها، وخطأ رجال الدين الذين يقعون فيه دائماً أنهم يبتسمون لمن يواليهم، ويقطبون الجبين أمام كل من يخالفهم علمياً أو فلسفياً أو اجتماعياً، وإذا دققنا في الكون ورغم أنه لا متناهي الأبعاد نجده لا يعرف إلا النظام والانتظام، وهو الذي فرض حضوره على الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وإذا كانت غاية الأديان توفير أسباب الحياة للحياة صحيحة، وكان ماضيها سليماً، فمؤكد أن حاضرها ومستقبلها يسيران إلى الأفضل، شريطة تخليص الأديان من ثرثرة المنتفعين وسفسطة الجامدين، وإنقاذها من احتكار الجاهلين المحترفين في تعزيز الجهل ونشره، وإذا كانت الأديان بسيطة، والمفترض أن تكون كذلك، فهي لا تقرّ بوجود مهنة الهداية للناس، وأرباب تلك المهنة التي يأكلون منها ويكنزون، فلا ينبغي أن تكون الأديان مهنة تدرّ الرزق وتعطي لأربابها متاع الدنيا.

أجل إن حاجة الإنسان إلى طاقة الصفاء القائمة من مبادئ الاستقامة البسيطة التي لا خداع فيها ولا تمويه ولا تناقض ولا تشويه ولا إخلال ولا تدخل في قوانين الطبيعة الأكثر من منتظمة، غدت أكثر من ماسة في زمن يسود فيه الغش والفساد وإفساد البلاد والعباد، بعد الذي نشهده من تفشٍّ للمظاهر المادية والوصولية في جسم البشرية من قواعدها حتى رؤوسها، ثقوا معي أن في الإمكان صنع المعجزات في زمن الندرة، ولو استطعنا أن نعيد إلى رجال الدين ورجالات السياسة حسن ظنهم بالأخلاق وصدق تقديرهم للمثل العليا، لأن هاتين الحاجتين بحاجة ماسة إلى إحياء وإعلاء شأنهما ضمن العروش الدينية والسياسية.

العبادة تعني العمل للحياة، والعبادة أعمال أخلاقية وفن غايته تعزيز البناء الكوني وزيادة جماله، وهذه في اعتقادي أرقى أنواع العبادات، وهي وحدها الباقية والآبدة والخالدة، فالعبادات المنتجة للجمال تحدث التطور، وتتفاعل مع مستجدات الحياة وضروراتها، وتبتعد كثيراً عن المداهنة والمصانعة الجوفاء والمسايرة الموهمة بأن كل شيء على ما يرام، وإذا كان العلم يولد من رحم التأمل والإيمان بما يجب أن يكون من خلال ما كان من منظومة الكون البالغة الدقة، أي مثل سيمفونية رائعة مكتملة الأدوات والأنامل، فالأرواح قادمة من الأفكار الكونية المتماسكة والمرتبطة بعرى لا انفصال لها، تعطيك الإحساس بالتناسق، وكل شيء فيها حي متحرك متصل متتابع، يظهر أسرار حركتها وعلاقة إنسانوية بين الجمع، لأنهم اشتركوا بعد أن توحدوا مع الآلات والأفكار، ليخرج منهم إيمان بالغ الجمال، أليس بربكم هذا ما تحتاجه الأديان؟

الأديان قائمة مذ خلق الإنسان وتعدد وتكاثر، أي من عبادة الإنسان الجليدي إلى السحر وعبادة الأفتاش والتابو والطوطمية وعبادة السلف وآلهة القبائل والملوك الآلهة وعبادة استرضاء أرواح الطبيعة وعبادات الخصب، وصولاً إلى عبادة الشمس والقمر، من ثم الانتقال إلى الأديان التوحيدية، وكل دين منها امتلك ميزة وفكرة مقنعة، اختص بها مجموعة كبيرة أو صغيرة من البشر، ولكل منها نظام محكم، والمشترك بين جميع الأديان هو الإيمان أولاً، ومن ثمّ التخصص بالدين، فمفهوم الروح والحياة والموت لم يلج بعد بابها غير الإنسان.

هل يستطيع رجالات الأديان وضع الدين في خدمة الفكر الإنساني والفكر الجمالي؟ وأن يكون فيما بينها تعاون ثقافي، مع إيماننا بأن لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب أن تحترم وتصان، وهذا يتجيّر إلى كل دين، وفي الوقت ذاته ينشأ مشتركاً فيما بينها، يكون بأن الجميع مؤمن بالتسامح والمساعدة، ما يسهم كثيراً في إنجاح أسباب وجود الإنسان على هذه الأرض، الذي يحتاج وبشكل دقيق إلى امتلاك الأمن الروحي، الذي أخذ بالتضاؤل نتاج انكشاف الكثير من خبايا الأديان، كما هو حال السياسة التي أخذت تتعرّى بسرعة، والإنسان لا يستطيع السير من غير هدى، فمن يهديه ومن يؤثر فيه؟ الإيمان، الأديان، السياسة، التكنولوجيا ووسائطها؟ وهنا أستطيع أن أقول: إن الإنسان لم تعد ترضيه الطرق والوسائل المعتادة التي مارسها عقوداً من الزمن مستسلماً فيها للحياة والعمل أمام ما يتأمله منها، وهو أي الإنسان ورغم استمراره فيهما فهو يعتبرهما معركة لا يريد الانسحاب منها، ولا التستر على النقص الذي يحتاجه منها ومن الأديان.

 من الضرورة بمكان أن تعيد الأديان إنتاج نفسها، وأن تعود إلى جذورها الأخلاقية التي جاءت عليها أمام ما تشهده الحركة البشرية التي غدت أطماعها ببعضها أكبر من أي واقع، وتتحمل مسؤولية ذلك السياسات العالمية، التي اتجهت كلياً إلى إنشاء الصراعات المادية، بعد أن امتصت مجمل الأخلاق، وعملت على إتلافها، وها نحن نشهد الانهيارات المتلاحقة في السياسات، ولا نريدها أن تكون كذلك في الأديان التي يجب أن تذهب إلى التطور، وإلا فالنتائج آيلة إلى ما لا يحمد عقباه، وكهن الكهنة في الأديان والسياسة يعلمون أكثر بكثير مما يعلمه مريدو هذه أو تلك.

د. نبيل طعمة