السرُّ الخارق

السرُّ الخارق

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ١٥ نوفمبر ٢٠٢٠

يشكل للإنسان حيرةً في معنى هذه الحياة الزاخرة بالحيوية والنشاط والاتساع والتكاثر، فهل الحياة مولودة هذا العالم؟ أم العالم هو مولودها؟ مؤكدٌ أن كل مولود بشري سيغادر هذه الحياة من دون مبرر، على الرغم من وجود الأمراض والحوادث وانتهاء العمر الفني والحروب، وأيضاً نحن دخلنا الحياة بمبرر، ولكن من دون إرادة منا، والذي نمتلكه وندركه هو وجودنا بين المرحلتين، ونحن لا نعرف ما كان، رغم أننا نبحث ونغوص في الماضي اللامتناهي الأبعاد، وأيضاً نجهد في التخيّل، لنعرف ما سيكون، ومع فترة الحياة الممتلئة بالعقبات، تطالبنا بتحويلها إلى مزايا، ومعرفة بنياننا تؤدي إلى بناء الشخصية بعد الإلمام بالأخطار التي تحفّ مسيرتنا، ما يهيّئ التنبه لمصادر الخوف وأماكن النقص، هذا الذي يتزايد كلما تطورت المجتمعات الحديثة، التي تفرض صعوبات وتعقيدات ناتجة عن ازدياد مظاهر المدنية وسرعة الوسائط التكنولوجية، ما يجبر الإنسان على تغيير نمط حياته بسرعة، وضمن زمن قليل.

 إذا دققنا قليلاً نعلم أن لا شيء ثابتاً، ليس حولنا فقط، وإنما على جميع محاورنا الكونية، فالمادة غير ثابتة، والزمن غير مطلق، الاستثناء الوحيد يكمن في سرعة الضوء التي لا تتغير، والإنسان بطبعه ميّال للاهتمام بالظواهر غير المألوفة، وصحيح أن هذا بدأ مع بدء الخليقة، وتابعه العلماء والمفكرون ورجال الأديان والباحثون، وربطوا بعد أن أدركوا بعضاً من الظواهر بقوى الماورائيات التي لا تمتلك قدرة الإنسان، ومهما بلغت السيطرة عليها لإدراكها مجتمعة، وكانت غايتهم الدائمة الوصول إلى علم الروح الذي بدأ يأخذ مجراه بقوة من خلال الباحثين فيه، الذين اعتبروه نوعاً من أنواع العلوم الطبيعية، وأنه خاضع للتجارب، ومن الممكن أن يكون ظاهرة تحتاج إلى تفسير، عبر البحث في هذا الكون، وأنه لا يوجب حدوث الملل أو التراجع، فالعقل الإنساني قلق ومتوتر ولا يحب الانتظار، ولديه القدرة على الذهاب إلى نهاية الهدف والعودة من جديد، ولذلك أوجد فرضية احتمال بقائه حياً بعد الموت على شكل غامض ومبهم، ومعتبراً أن في داخله شيئاً سحرياً نادراً يسكن صندوقه الأسود، الذي يحمل السر المبهر المتكون من طاقة تمتلك القدرة على الحفاظ على الأشياء التي لا يمكن للإنسان أن يمتلكها، وهي التي تَرى ولا تُرى، وتنفذ إلى ما لا يمكن النفاذ إليه، وهي صاحبة الحياة، ولديها قوة التأثير في موجوداتها المعرّفة وغير المعرّفة، وعليه أستطيع القول: إن استمرار البحث يشير إلى أن الوجود الإنساني لم يصل للأوج بعد، وما وصل إليه الإنسان من تحضّر ومدنية ووسائل تؤكد أن هذا ليس هو الوجه الأخير للإنسان، كما أن الإنسان الحالي ليس إلا أنموذجاً غير كامل التطور لإنسان المستقبل، وما نحن عليه ما هو إلا التشخيص الوحيد لمعنى الكون الشامل، بما فيه الإنسان، والكلّ ما زال مجهولاً حتى اللحظة.

بعد عدة محاولات دخلت إلى نفسي، فوجدت أني أسير على شعرة فاصلة بين فردوس العقل وجحيم الشهوة وأريد، وكانت غايتي الاطلاع على منجزات ذاك الإنسان القديم، الذي أورث البشرية جميع هذه النظريات التي لا تمتلك الحلول بشكل كامل، حاولت من أجل فهم اضطرابات الحاضر الممتلئ بكل شيء من أجل أن يكون خطوة من الحياة في الغد المجهول الذي تسكنه الجنان إلى جانب الجحيم الذي وجدته هائلاً أمام المبني في الجنان، حيث هي ضيقة لا تتسع إلا إلى القليل من أصحاب الأخلاق الحميدة والخير السامي. تركتها لأتجول في منظومة الجحيم الهائلة، التي ترينا أن الإنسان كائن قائم على التناقض، وبشكل خاص بين طبيعته ومجتمعه الذي يحب منه ما يريد، ويكرهه عندما يخالف هذه الطبيعة، ومهمٌّ أن يسأل الإنسان قبل نهايته إلى أين أنا ذاهب؟ وهذا ما يحققه له نضج وعيه قبل الأخير، فالذي وصل إلى نضج الوعي يعي تماماً إلى أين ذاهب، لأنه أدرك ما فعل في رحلته بين اللاإرادة في الولوج إلى الحياة، واللاإرادة في الخروج منها، لكنه أدرك تماماً أنه جزء وجرم صغير من هذا الكون، وفي الوقت ذاته هو ركن رئيس في صناعة تاريخ هذا الكون وفلسفة وجوده التي صنعت وجوده الطبيعي بالجسد والخلود الروحي بالأثر، وهنا أوضح بأنه ولمجرد توافر العلم بالعقل تتكشف أسرار الدين، لأن العدم في العقل يفقد السر معناه، ومن العدم أسأل: هل كان هناك قبل الخلق الحي بأجناسه روح؟ أؤكد أنها كانت، لكن لم تكن معرفة، لأنها كانت تحيا في العدم، أي إنها لم تكن تمتلك الشكل ولا الهوية، وأول سكن للعلم والمعرفة أظهر الحياة من خلال اتحاد الروح بالمادة، مُشكلة الحركة على هذه الأرض، فغدت بذلك حية، وهنا عرف هذا الاتحاد مفهوم الآلهة التي لا تشكل تحريكاً لهذا الكون؛ بل حياة لحركته التي لا تتوقف، وفي الوقت ذاته لا تنتهي.

مازال الإنسان بحاجة أوسع وأشمل لفهم هذا الكون، ولا ينبغي أن يرضى بحصر فكره في جزئية صغيرة منه، وذلك بسبب العمل الكلي المترابط فيما بينه، يحدث التطور، لنتخيل أن ليس هناك جنس حيوان، أو جنس نبات، بعيداً عن كل باقي المكونات، هل كان هذا الكون ليعمل؟ أو أن ليس هناك إنسان، هذا الذي اعتبره سبب وجود الكون ومحركه الرئيس النابض فيه. ولذلك أقول: هل فهمنا واقعنا الإنساني، وناقشنا أسباب وجودنا؟ هل فهمنا معنى التحجر القادم من الحجر، وأن التحجّر موتٌ لحظة توقف العقل عن إيجاد أو إبداع أي فكرة، وأن البدء في البحث والمحاولة هي من الضرورة بمكان، بغاية الوصول إلى فك شيفرات السرّ الخارق، ولو بالحد الأدنى المرتبط بالروح وأثرها في الزمن الحاضر، من أجل رفع مستوى النضج في الوعي ومعنى التاريخي والحضاري.

دعونا نسافر إلى الأمام علّنا نرى الإنسان الجديد بحياته وتفاعلاته معها، بعد أن سافر الكثير إلى الوراء، أي إلى الإنسان القديم، الذي أنجز في الفكر أفكار الجنان والجحيم، من دون أن يمس الروح التي تمتلك كل الأسرار، وهنا أدعو إلى ضرورة التحول لفهم الروح والسعي لسد الثغرات الكثيرة المنتشرة في الفكر الإنساني الباحث عن الوصول إلى الكمال.

هل يتنازل الفكر عن الماضي الروحي الذي يقف سداً في وجه التطور والتجديد والإبداع؟ وهل يسمح للوعي بالنضوج والتحرر في عقد الإنسان القديم العاجز عن الوصول إلى الحرية الإنسانية، هذه التي وحدها تسمح بالولوج إلى عالم جديد؟

 هل تفكرنا بأن معنى الحضارة والتحضر والبناء الحضاري هي خصوصية إنسانية؟ ولولا حضارته اللغوية والسمعية والصوتية والحسية لما تطوّر الإنسان، ولبقي على بدائيته الأولى، فهذه الحضارات التي اختصّ بها الإنسان منفرداً قَدر من خلالها على بناء عالم فكري متنوع وسبل وسلالم، تقدّمَ وصعد عليها نتاج إيمانه بالآخر، وجسّد معه روح الجماعة وبناء الشعور العام، هذا الذي ولّد مغامرة الإنسان الروحية ومحاولاته الدائمة للسير، ليس إلى ما وراء العالم اللامرئي، بل إلى العالم الأمامي، الذي أخذ يتصوره ويبني عليه غده، لأنه أدرك أنه واصل إليه.

 هل تفكر أحدٌ في ما قبل وجود الإنسان الذي اعتقد أنه لم يُخلق قبله شيء روحي؟ وهو مستمرٌ إلى الأبد، يتكاثر الواعي واللاواعي منه، وأنه لابدّ متنقل بين الكواكب، يستكشفها، فيغدو روحها، إن توافرت له عناصر حياته عليها.

السرُّ الخارق يكمن في الروح، محاولة أزلية لإدراك مدى الطاقات الكامنة في جوهر العقل الإنساني القائم من جزأي الأبيض والأسود، والفاصل بينهما وهما في الوقت ذاته الخير والشر، الجحيم والنعيم، فهل الروح منقسمة أيضاً إلى جزأين؟ كيف يكون بناؤها؟

سؤال أدعه برسم فكركم، خوضوا آليات البحث عن أجوبة لتحقيق الانتقال الكبير من الروح الصغيرة، إلى مساحتها الكبرى، وأين تكون، وفي أي جانب أو جزء منها؟,

د. نبيل طعمة