مستقبل الوطن

مستقبل الوطن

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٥ سبتمبر ٢٠٢١

تدعو الضرورات لفهم النظام الديني وكيفية عمله تحت مظلة النظام السياسي، لإدخاله إلى طاولة الجدال الإيجابي والنقاش الموضوعي، لأن الإنسان يجب ألا يبقى مأخوذاً فقط بهواجس المصلحة الشخصية وحسابات الأنانية المفرطة وتطويرها، ومن ثم دفع الميول والمشاعر إلى عالم التجانس والألفة والخير، وبما أن الأديان تعتبر في المنطق مبدأ من مبادئ الأخلاق، فلأن الحياة الطبيعية هي بكل بساطة حياة أخلاقية، والجنوح عنها يعني أخذها لمحاور الشر أو السيطرة والعنصرية بكل أشكالها، وإذا كان الجهل يفرّق ويدمّر، والعلم يجمع ويطور، فإن المعرفة تنور وتحرر، وإذا عرف الإنسان الحق، أي ما له وما عليه، تحرر من عقد الشهوة والشراهة والوصولية، وإذا عدت إلى الجهل فإني أعتبره من أهم أسباب التخلف عن مواكبة الحداثة وإنماء الحضارة أو الإسهام في بنائها، وأعتبره في الوقت ذاته من أهم أسباب نشوء التطرف الديني والأيديولوجي، وإذا كانت الأرض السورية التاريخية والحاضرة مهداً للديانات ومنبعاً للحضارات وموئلاً للنبوّات، ومن خلالها اهتدت البشرية إلى الديانات الثلاث التي تراكمت فيها المقدسات، ونهلت من بعضها فكراً وتطويراً وتدعيماً للقداسة والروحانيات، فإننا نجد في هذه الحقبة الزمنية المعيشة أن هذه المهاد بإرثها الهائل بدلاً من أن تكون قوة لنا أصبحت وأمست قوة ضدنا.
تقدير الإنسان المنتج يؤدي إلى تعاون إنساني يحضر من أسس احترام الحياة التي تأخذ بالإنسان إلى الإيمان، الذي قدمت له جميع المعارف، ودعته لقيادتها، ومنحته قوتها الفاعلة، ليكون معيناً وموجهاً لخدمة الحياة وتنظيم المجتمع والارتقاء به، ولنعترف بأن هذه الأرض التي حملت مبادئ الحب والسلام والأخوة والوئام، تحولت إلى أرض الحروب والأنانية والآثام.
اقرؤوا من الذي مضى كيف عمل الأمويون والعباسيون على بناء حضارة قامت من نهضة فكرية وعلمية وأدبية، سادتها أخلاق نوعية، نشرت ديناً، وحولته إلى العالمية بفضل تعاونها مع الديانات الأخرى وأهمها المسيحية، وترفعها عن فكرة إكراه الآخر، مظهرة المحبة التي لا تعرف الفرقة ولا اللون أو العرق، وأنجبت مفهوم القومية بالتعاون مع المسيحية والديانات الأخرى، هذه التي أظهرت مفهوم الدولة الذي شدد على ضرورة أن الانتماء يجب أن يكون أولاً للوطن، قبل أن يكون للدين، وأن يكون الجميع مواطنين قبل أن يكونوا متدينين، وإرساء مفهومي العروبة والقومية خارج إطار الأديان والطوائف والمذاهب يعني أن ديناً جديداً ولد من رحم الشمولية الدينية، أطلق عليه الولاء للوطن، والمنطق الحضاري يتحدث أن ليس هناك مستقبل لسيطرة مشهد ديني وحيد من دون التعاون مع المشاهد الأخرى، وأنه المستقبل الوحيد الدائم للناس كافة، الأمن للجميع هو مستقبل الوطن الذي يهب المواطنين الخير والنعم والبركة، ويزيل الفوارق، ويطيح بالنقمة المتوارثة والشرور الدفينة.
فالوطن يجسد السبيل الوحيد للوحدة والبهجة والصفاء، ودونه لا شيء، وهنا لا أنظر إلى كل الماضي، إنما أركز على المستقبل الذي يدعو إلى تعزيز القيم الأخلاقية واستنهاض الميول العفوية الطيبة المسكونة في الطبيعية البشرية، لأن الحياة الأخلاقية بكل بساطة هي الحياة الطبيعية، ودون ذلك يعني أننا على تضاد معها.
دعونا نقر أمام بعضنا أو على الأقل لأنفسنا، بأن مسؤولية الآثام والحروب والشرور في وطننا هي مسؤوليتنا، ومهما يكن فإن إرساء السلام أيضاً مسؤوليتنا، وأجد أننا مدعوون بقوة للاتجاه إلى هذا المسار، فمسؤولية قدرنا يجب أن تكون في أيدينا.
أيها السادة: كافحنا على هذه الأرض منذ بداية وجودنا، قبل كل الأفكار الدينية، ورسمنا مستقبلاً، وفي أصعب الظروف حافظنا على وجودنا، والآن ينبغي على الجميع الوحدة والانخراط في صناعة مستقبل مشرق لهذا الوطن، الذي يدعونا للتفكر والتأمل في كيفية الخروج مما أسقط علينا، واستيعاب الأوبئة التي تخترقنا، وإيجاد منافذ فك الحصار من الداخل قبل الخارج، فوحدة الوطن من وحدة أبنائه، وتعافيه الحقيقي عندما يكونون متحدين ومنظمين، بهذا يكون تضميد الجراح أسمى من كل شيء، وأضيف: إن حق أي شعب تخصص في وطن أن يبني فيه مستقبلاً، لأن دون ذلك يعني الانتهاء، دمتم ودام الوطن بألف خير.
د. نبيل طعمة