انتخابات مفصليّة في بريطانيا: «الكوربينيّة» أمام فرصتها الأخيرة

انتخابات مفصليّة في بريطانيا: «الكوربينيّة» أمام فرصتها الأخيرة

أخبار عربية ودولية

الخميس، ١٢ ديسمبر ٢٠١٩

يقصد الناخبون البريطانيّون، اليوم، صناديق الاقتراع لاختيار نوّابهم إلى مجلس العموم في انتخابات أقلّ ما يقال فيها إنها مفصلية لما قد تسفر عنه من خيارات استراتيجية داخلياً، وتموضعات للمملكة المتحدة في إطارها الإقليمي والدولي لعقدٍ مقبل على الأقل. ورغم أن آخر استطلاع للرأي نُشر أعطى تفوّقاً نسبياً لحزب «المحافظين» برئاسة بوريس جونسون، إلا أن مؤشرات متعدّدة ظهرت على إمكان أن يحقق جيريمي كوربن زعيم المعارضة العمّاليّة اختراق اللحظة الأخيرة.
لم تُسهم نتيجة آخر استطلاع رئيسي للرأي لتوجهات الناخبين البريطانيين بشأن نيات تصويتهم في الانتخابات العامة المبكرة، التي تجري اليوم، في تهدئة خواطر رئيس الحكومة بوريس جونسون وفريقه في حزب «المحافظين»، على الرغم من أن الاستطلاع توقّع له غالبية مريحة بـ339 مقعداً من أصل 650، أي بزيادة 21 مقعداً مقارنة بالمجلس الأخير. كانت النتيجة أسوأ من استطلاع سابق أُجري، قبل أسبوعين، لهيئة الاستطلاع ذاتها ــ شبه الحكومية ــ أعطى «المحافظين» 380 مقعداً، ناهيك عن أن استطلاعات أخرى أكثر تخصّصاً وإن كانت أقل حجماً لناحية العينة المستهدفة، أعطت أفضلية حاسمة لحزب «العمّال»، أو غالبية غير حاسمة لـ«المحافظين» على نحو قد يعود بالبلاد مرّة أخرى إلى أجواء برلمان معلّق عاجز عن اتخاذ قرارات كبرى. كذلك، إن توافقات اللحظة الأخيرة بين الأحزاب المعارضة لتنظيم تصويتات تكتيكيّة (لدعم مرشح المعارضة الأقوى في كل دائرة)، قد تطيح ببعض الرؤوس المعروفة في مناطق انتخابية حسّاسة ترشّح لمقاعدها قادة الصف الأوّل من «المحافظين». وتأتي هذه التوقعات في وقت بدا فيه أن كل يوم إضافي في الحملة الانتخابية يعني تراجعاً لجونسون وتقدماً لكوربن، بالنظر إلى الأداء المثير للإعجاب للأخير، حيثما أخذته جولاته الانتخابية حول الجزيرة البريطانية. وقد جاء ذلك بموازاة الفعّالية الظاهرة لإعلانات «العمّال» المصوّرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي استهدفت مواضع الألم عند الأكثرية من المواطنين سواء لناحية الأجور، أو الخدمات العامّة أو التعليم أو حماية نظام الصحة القومي العام من تغوّل رأس المال، فيما بدا رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال غير قادر على الاحتفاظ برزانة المنصب، وتخبّطت تصريحاته وكثرت تصرفاته العلنية الخرقاء والمثيرة للسخرية. وهو الذي ما لبث يكرّر لازمته بضرورة «الانتهاء من بريكست ــ إنهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي ــ بسرعة»، كموضوع أساسي لهذه الانتخابات، متجنّباً الدخول في القضايا الخلافية الكثيرة، ولا سيّما تجاه مسألة شروع «المحافظين» في مفاوضات جادة مع الجانب الأميركي لبيع النظام الصحّي البريطاني العام لرأس المال الخاص، التي كان قد كشف عنها كوربن، عبر نشره وثائق حكومية مسرّبة. وقد قضى جونسون، يوم أمس، في جولات انتخابية تعتمد على الصورة حصراً من دون الحديث، فشوهد يسلّم زجاجات الحليب للمنازل في يوركشير (شمال) رفقة موزّع متجوّل، وقبلها كان أول من أمس مع عمّال أحد المستودعات ينقل معهم الصناديق، في محاولة منه للتأثير في ناخبي الطبقة العاملة تحديداً.
في المقابل، قضى كوربن يوماً ماراثونياً، أمس، بدأه في غلاسكو ــ أسكتلندا، عابراً ستة مهرجانات انتخابية أخرى من شمال البلاد إلى جنوبها، باتجاه مهرجان رئيسي في شرق العاصمة لندن مساءً. وقد بدا في معنويات عالية متسلّحاً ببرنامج انتخابي متماسك ــ اعتبره كثيرون الأكثر يسارية في تاريخ «العمّال» ــ وتأييد جارف من الطبقة العاملة، والبريطانيّين من ذوي البشرة الملونة، والأقليات، والشباب الصغار السن، كما بقايا اليسار الإنكليزي على تشرذمه.
كلّ هذه الأجواء الإيجابية على الجانب الأحمر (لون حزب «العمّال»)، لا تخفى حقيقة أن الكوربينيّة، تواجه في تصويت اليوم اختباراً نهائياً حاسماً. فالبلاد مهدّدة حال فوز «المحافظين» مجدداً، بتبعات اقتصادية وسياسية واستراتيجية كبرى، ستكون في مجموعها أقرب إلى كارثة للأكثرية من البريطانيين لمصلحة نخبة يمينية تتجه بشكل متزايد إلى تكريس انعدام العدالة الاجتماعية داخلياً، والتشبيك مع الهيمنة الأميركية على حساب المحيط الأوروبي، واستمرار نهج محورة الاقتصاد حول الخصخصة، وتصدير الأسلحة للأنظمة الفاشية وتحويل لندن إلى عاصمة عالمية لتبييض الأموال المنهوبة والتهرّب الضريبي للشركات المعولمة (شركة «أمازون» الأميركية العملاقة لم تدفع ضرائب على مبيعات في السوق البريطانية تقدّر بالمليارات). كوربن، الذي يمثّل أهم نقيض لتلك السياسة الممتدة منذ عهد الراحلة مارغريت تاتشر ــ عرّابة النيوليبرالية ــ إلى وقتنا الراهن، بما في ذلك عقديّة حكومة توني بلير «العماليّة» التي كانت يمينية أكثر من اليمين ذاته، فيمثّل في الوقت ذاته أمل التغيير الوحيد الممكن في المدى المنظور، بينما يخوض على الصعيد الشخصي ما وُصف بأنها «الجولة الأخيرة». فقد بلغ هذا العام السبعين من عمره (مواليد 1949)، وفي حال لم يتمكن من الظفر بمنصب رئيس الوزراء، فهذا سيكون بمثابة نهاية لعمره السياسي، إذ أن «المحافظين» سيمسكون بمفاتيح «10 داونينغ ستريت» ــ مقرّ الحكومة ــ لخمس سنوات مقبلة على الأقل، لن يكونوا مضطرّين خلالها إلى إجراء انتخابات مبكرة، إن هم حصلوا هذه المرّة على الغالبية. غياب كوربن عن الساحة السياسية سيكون، عندئذ، بمثابة ضربة قاصمة للمعارضة، بالنظر إلى عدم وجود أية شخصية سياسية معارضة تمتلك رصيده الأخلاقي والفكري، أو حتى الكاريزما الكافية لملء مكانته.
لقد ألقت كل الأطراف المعنية بتوجهات الحكم البريطاني، بأوراقها ضد كوربن و(الكوربينيّة): من تسريبات المقرّبين من القصر الملكي، مروراً بمصالح رأس المال الكبرى، ومراكز القوى في الدولة العميقة من استخبارات وقوات مسلحة، ودوائر الإعلام الجماهيري (تلفزيونات وصحف كبرى)، ناهيك عن اللوبي الصهيوني الواسع التأثير، إضافة إلى مثلث سفارات واشنطن ــ تل أبيب ــ الرياض، انتهاء إلى تيار اليمين داخل حزب «العمّال» نفسه. وهؤلاء جميعهم، بتحالفهم يمتلكون قدرة فعلية على التحكم في الرأي العام البريطاني المدجّن عبر عقود برمجة شوفينيّة عنصرية مستمدة من أوهام التفوق الإمبراطوري المستعادة، برغم كل السياسات المعادية منهجياً لمصالح الأكثرية المغيّبة عن صنع القرار.