حلف الناتو يحشرج قبل الموت

حلف الناتو يحشرج قبل الموت

أخبار عربية ودولية

الأحد، ١٥ ديسمبر ٢٠١٩

جورج حداد*
انعقدت مؤخرًا في لندن القمة الدورية لحلف الناتو. وقدمت هذه القمة صورة واقعية عن الأزمة الوجودية للحلف. وقد ظهر عمق هذه الأزمة الى درجة أن الرئيس الأميركي ترامب ألغى مؤتمره الصحفي المقرر سلفًا، مبررًا خطوته بأنه شارك في الكثير من اللقاءات الصحفية. ولكن السبب الحقيقي هو وجود جو من الخلافات الشديدة بين الشركاء في الحلف، التي لم يرد الرئيس الأميركي أن تعرض أمام العالم.
ففي بداية مؤتمر القمة كرر الرئيس الفرنسي ماكرون قولته إن الحلف يوجد في حالة "موت دماغي". ولكن الرئيس ترامب انتقد ماكرون بسبب "موقفه عديم الاحترام" للحلف. وحسب رأيه فإن كلمات ماكرون ليست فقط غير ملائمة، بل هي وقحة.
ووجه ترامب انتقادات حادة ضد ماكرون وجميع أولئك الذين عبروا عن الشكوك حيال المبرر لاستمرار وجود حلف الناتو. وكما هو معلوم فقد غادر الرئيس الاميركي القمة قبل نهايتها. وكان ترامب يأمل ان يُقنع الاعضاء الاوروبيين في الناتو بأن يرفعوا ميزانياتهم الحربية على الاقل الى 2% من الناتج المحلي القائم، مما لم يجلب له التصفيق من الحضور، لانه كان من الواضح ان اي زيادة في الميزانية الحربية سيتم تبذيرها بلا طائل. واغلبية الدول الاعضاء في الحلف ترى انه من الافضل انفاق هذه المبالغ في برامج الخدمات الاجتماعية الضرورية.
وقد خرج خاسرا من قمة لندن كل من ترامب وحلف الناتو والدمية الاميركية يينس ستولتنبرغ الامين العام للحلف، الذي يشغل هذا المنصب منذ 2014 حتى الان.
والسؤال التاريخي حاليا هو: ما هو مبرر وجود الحلف حتى الان؟
انه من الواضح تماما ان روسيا والصين ليستا عدوتين للغرب. ولكنهما تتهمان بذلك من قبل واشنطن. والسبب هو ان الامبريالية الاميركية تحتاج الى وجود عدو، ولو وهمي، لكي تستمر في اشعال وخوض الحروب والصراعات. وكل ذلك لاجل تأمين مصالح المجمّع الصناعي الحربي الاميركي، ولتأمين الارباح له بالمليارات المضاعفة. فالنظام الاميركي الذي يتجلبب بالدمقراطية والنيوليبيرالية هو في الحقيقة نظام نيوفاشستي، ويستخدم القتل الجماعي كبيزنس مربح. والواقع ان القتل الجماعي تحول الى اكبر بيزنس في العالم الغربي. والناتو حوّل القتل الجماعي الى عمل مؤسساتي بوصفه "امرا طبيعيا جديدا". وظهر ذلك بوضوح في صربيا وافغانستان والعراق وسوريا وليبيا.
ولتبرير الاستمرار في سياستها الخارجية العدوانية وانفاق مئات مليارات الدولارات الاضافية على التسلح، تتحجج الادارة الاميركية ايضا "بالحرب الدائمة" ضد الارهاب، الذي أوجدته هي نفسها بالتعاون مع حلفائها الخليجيين. وهذه "الحرب المصطنعة" ضد الارهاب هي الان المصدر الرئيسي لتغذية الاقتصاد الاميركي الذي يتمحور حول الصناعة الحربية. ولتبرير الزيادة في صناعة وتجارة الاسلحة تعمد الادارة الاميركية الى دعم ممارسة العنف البوليسي والفظائع واعمال القمع في كل مناطق نفوذها. ويشمل هذا العنف الداخل الاميركي ذاته حيث اصبح الوضع اشبه شيء بـ"الحكم العسكري".
ولهذه الغاية ابتعد حلف الناتو كليا عن المبادئ "الدفاعية" التي نشأ على اساسها، وتحول الى اداة بيد اميركا لممارسة سياسة العدوان على الشعوب الاخرى بعيدا عن اراضي الدول الاعضاء في الحلف. ولا يمكن الا ان يوصف بالكذب الوقح الادعاء ان الحلف يمثل قوة للدفاع عن اوروبا ضد الغزو الروسي المحتمل. والجدير بالذكر ان اغلبية اعضاء الحلف اصبحوا يرفضون هذه الحجة. والان استبدلت البروباغندا الاميركية هذه الحجة، بحجة اكثر وقاحة وهي ان الناتو هو وسيلة للوقوف بوجه "الخطر العسكري الصيني المتزايد بسرعة"، اي ان هناك محاولة لتبرير استمرار وجود حلف الناتو بسبب وجود "التهديد الصيني" المزعوم. هذا مع العلم ان الصين هي من اكثر البلدان الكبرى تمسكا بالسلم وقد طرحت مشروعها العالمي الكبير "حزام واحد ـ طريق واحد" من اجل التعاون البناء بين جميع دول العالم بما فيها البلدان الغربية جميعا.
وتشير كل الدلائل الى ان القادة الاوروبيين بدأوا يعيدون النظر في السياسة الاميركية التي تفرض عليهم، والتي تتناقض مع مصالح بلدانهم. ولا يستطيع هؤلاء القادة ان يتجاهلوا الواقع وهو ان روسيا والصين انما تعرضان على اوروبا العلاقات التجارية والاقتصادية السلمية والمفيدة لجميع الاطراف، والقائمة على الصداقة والمنافع المتبادلة. والمبادرة الصينية لتحقيق برنامج "حزام واحد ـ طريق واحد" تصبح اكثر فأكثر جاذبية، بالرغم من الانتقادات التي توجه اليها من قبل بعض السياسيين الاوروبيين الاذيال، الذين يحاولون بذلك ارضاء اسيادهم في واشنطن.
ويتضح اكثر فأكثر ان المطالبة الاميركية للبلدان الاعضاء في حلف الناتو بزيادة ميزانياتهم العسكرية الى 2% من الناتج المحلي القائم، لا تهدف الى تدعيم الدفاع عن تلك البلدان ضد "الخطر الشرقي" المزعوم، بل تهدف الى زيادة الطلبيات الحربية من المجمع الصناعي الحربي الاميركي الذي تصر الادارة الاميركية على توجيه كل طلبيات الاسلحة اليه. وقد فرضت العقوبات الاميركية على تركيا، التي اقدمت على شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400 التي تتفوق على منظومة  Patriot الاميركية.
ان الاموال الاضافية، الناتجة عن زيادة الميزانيات الحربية، ينبغي ان تنفق الزاميا في الولايات المتحدة الاميركية لزيادة ارباح المجمع الصناعي الحربي فيها. وبالاضافة الى ذلك تهدف هذه السياسة الى الاضعاف المتزايد لاوروبا، التي بدون ذلك تتأرجح على حافة الركود الاقتصادي، اي تهدف الى اضعاف اوروبا كمزاحم اقتصادي جدي لاميركا، وجعلها اكثر طواعية وخضوعا للهيمنة الاميركية.
ان كل عملية ركود يصطنعها الفيديرال ريزرف (البنك المركزي) الاميركي، انما تضرب بشكل اولي وشديد اوروبا. وحتى الان لا تزال اوروبا تعاني من الازمة المالية ـ الاقتصادية التي اثارتها اميركا سنتي 2008 ـ 2009.
والان تتجمع في الافق مؤشرات موجة جديدة من الركود. واي زيادة في الميزانيات الحربية الاوروبية ستنعكس بشكل كارثي على اوروبا. ويرى المراقبون المحايدون ان حملة العداء الهستيري ضد روسيا والصين وايران انما الهدف الحقيقي منها هو اضعاف اوروبا والسيطرة الاميركية عليها. وهذا ما يهدد حلف الناتو بالانفجار من داخله عاجلا او آجلا.
العهد