ماكرون في الساحل الأفريقي: ضمور لمستعمرٍ قديم؟

ماكرون في الساحل الأفريقي: ضمور لمستعمرٍ قديم؟

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢١ يناير ٢٠٢٠

ماكرون في الساحل الأفريقي: ضمور لمستعمرٍ قديم؟

تبدو فرنسا غارقة في منطقة الساحل الأفريقي منذ قرار رئيسها السابق فرنسوا هولاند في بدايات 2013 الذهاب إلى مالي «لدحر الجماعات الإرهابية». فإلى جانب تمدد «الجماعات الجهادية» في تلك المنطقة واستفادتها من أزمات المجتمعات المحلية لتختلط، كما في وسط مالي، الأزمة الأمنية بأزمات مجتمعية بين المكوّنات المحلية العاملة غالباً في الرعي والزراعة، ثمة خطاب مناهض لفرنسا بدأ بالبروز في الأشهر الماضية، حتى على ألسنة مسؤولين من دول مجموعة الساحل الخمس (مالي، موريتانيا، النيجر، تشاد، وبوركينا فاسو)، كما أنّ الخريطة «الجهادية» اتسعت بعدما استفادت من تبعات تفكك ليبيا على مجمل الصحراء الأفريقية.
 
وقد سعى الرئيس الفرنسي في الثاني عشر من الشهر الجاري لجمع رؤساء دول الساحل في مدينة بو الفرنسية بغية الإمساك مجدداً بزمام المبادرة، في قمة خلصت إلى قرار باريس نشر «قدرات قتالية إضافية، 220 جندياً يعززون قوة برخان» البالغ عددها 4500 عسكري، إضافة إلى الإعداد لتنسيق عملهم في «إطار جديد ـــ إطار سياسي واستراتيجي وعملاني جديد» يطلق عليه «التحالف من أجل الساحل» يجمع بين دول المنطقة وقوة برخان ودول شريكة.
وإزاء الانتقادات للدور الفرنسي، توجه ماكرون بنبرة حادة إلى القادة الأفارقة بالقول «أعرف من يموت من أجل سكان النيجر، ومالي وبوركينا فاسو...) إنّهم الجنود الفرنسيون»، إضافة إلى تلويحه بإمكانية الانسحاب الفرنسي من المنطقة. جاءت هذه القمة بعد قمة استثنائية كانت دول الساحل الخمس قد عقدتها نهاية كانون الأول/ ديسمبر في مدينة نيامي في النيجر، تمهيداً لهذا الاجتماع، والتي خُصّصت لبحث«سبل مكافحة الإرهاب»، وذلك بعد مصرع 71 جندياً نيجرياً في هجوم «ايناتيس» الذي يُعتبر أحد أكثر الهجمات دموية في الآونة الأخيرة، وقبلها حادث الاصطدام بين مروحيتين عسكريتين فرنسيتين في شمال مالي.
يومها، ورغم الأصوات الداخلية والخارجية التي شككت في الدور الفرنسي وفي القدرة على إعادة الاستقرار في هذه المنطقة، أصرّ الرئيس الفرنسي على إعلان موقف بخصوص القوات الفرنسية في الساحل بالقول: «لقد تم تأكيد شرعية نشر القوات على مدى ست سنوات، وأنها لا تزال جزءاً من أمننا». ورفض ماكرون توجيه اتهام لأي بلد من الساحل بخصوص اتخاذ موقف سلبي من الوجود العسكري الفرنسي، واكتفى بالقول: «أرى حركات معارضة، مجموعات تندد بالوجود الفرنسي بوصفه وجوداً استعمارياً جديداً، أرى انتشاراً في بلدان كثيرة لمشاعر ضد الفرنسيين من دون إدانة سياسية».
وفي هذا السياق، قال مصدر أمني فرنسي لوكالة الصحافة الفرنسية إنّ الفرنسيين يعتقدون أن هنالك موقفاً «سلبياً» لدى السلطات في مالي وبوركينا فاسو من الوجود العسكري الفرنسي. وأضاف: «حين يتحدث (ماكرون) عن توضيح، فإنه يقصد الرئيس المالي والرئيس البوركينابي». وكان ماكرون نفسه صرّح بأنه «لا يمكنني أن أحتفظ، ولا أريد أن أحتفظ،‏ بقوات على الأرض في الساحل في الوقت الذي يلتبس فيه موقف السلطات المحلية من الحركات ‏المعادية لفرنسا، وأحياناً توجد انتقادات من الوزراء والسياسيين».
تصريحات ماكرون لم تأت من فراغ، فدول الساحل الخمس بدت في الأشهر الأخيرة مستاءة من «الركود» الفرنسي، وتصاعد الهجمات الإرهابية، التي في أغلب الأحيان كانت تدفع ثمنها الجيوش الأفريقية لا الفرنسي. ردّ فعل باريس «التحسبي» جاء على هيئة دعوة مفاجئة إلى «بو»، الأمر الذي اعتبره رؤساء الدول الخمس «استدعاءً».
حينها، حذّر الرئيس الفرنسي من أنه سيضع جميع الخيارات الممكنة على الطاولة، ومن ضمنها خيار انسحاب قوة برخان أو خفض عدد المشاركين فيها. وعلى الأثر، اعتبر الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا أن «قمة بو ستكون حاسمة، لأنها ستسمح بأن توضع على الطاولة كل الإشكاليات، والمخاوف وكل الحلول».
تزامن ذلك مع رفض شعبي بدت ملامحه تظهر بوضوح؛ حيث انطلق بعض التظاهرات، خصوصاً في باماكو، للمطالبة برحيل القوات الأجنبية، خصوصاً الفرنسية. في هذا السياق، يرى الصحافي والكاتب والباحث في الشؤون الأفريقية محفوظ السالك، أن «شعوب منطقة الغرب الأفريقي والساحل تنظر بعين الريبة والشك إلى أيّ تدخّل أو نشاط لفرنسا في المنطقة، نتيجة الماضي الاستعماري».
ويضيف في حديث إلى «الأخبار» أن «الرافضين لهذا التدخل، وهم قوة شعبية كبيرة، بينها ساسة، وقادة رأي، وفاعلون في المجتمع المدني، وحقوقيون... يرون أن الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة هو جزء من المشكل، وليس جزءاً من الحل، ويستدلون على ذلك بأنه على الرغم من وجود القوات الأممية، والفرنسية، فقد قتل في المنطقة ما يزيد على 4 آلاف شخص في هجمات إرهابية، منذ 2016، من المدنيين والعسكريين، أساساً في منطقة الحدود الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو». ويلفت الكاتب إلى أن الشعب «بات يعتبر أن القوات الأجنبية تسهم في تزايد الإرهاب في المنطقة، إذ تزايد عدد المجموعات الإرهابية، وتحالفاتها، ولم يضع حداً لها، كما كان منتظراً».
 
 
التدخل العسكري الفرنسي في الساحل لا يمكن أن يخرج عن دائرة الاستقطاب الدولي في أفريقيا ذي الطابع الاقتصادي
 
 
«لا استراتيجية»
يعلّق الباحث في «مجموعة الأزمات الدولية» جان ــ ارفيه جيزيكل بأنّ «ثمة استراتيجية عسكرية، ولكن لا وجود لاستراتيجية سياسية». ولكنه لمّح في الوقت نفسه إلى تناقض أساسي، وهو أنه حتى في حال افتراض وجود استراتيجية سياسية، فلا وجود أصلاً لسلطات حاكمة لديها من الشرعية ما يخوّلها الدخول في مسار يقود إلى «إعادة بناء الدولة».
تعيد هذه المفارقة إلى أساس المقاربة الفرنسية لعموم أفريقيا منذ نهاية زمن الاستعمار. فعلاقة باريس بهذه الدول ليست مصيرية للطرفين، وإنما لفرنسا فقط، وهي تتعلّق ببقاء الدولة الفرنسية واستمرارها كقوة كبيرة ذات مكانة عالمية. وسبق للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك أن قال في آذار سنة 2008 إنه «من دون أفريقيا، فرنسا سوف تنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث». سبقه في ذلك سلفه فرانسوا ميتران حين قال عام 1957: «من دون أفريقيا، فرنسا لن تملك أيّ تاريخ في القرن الواحد والعشرين».
‏أمام هذه المعضلة، لا يستبعد الرئيس الفرنسي أي سيناريو يتعلق بوجود بلاده العسكري في الساحل. رغم ذلك، أصرّ ماكرون على البقاء، مستعيناً بدعم الحلفاء الأوروبيين. وقد طالب مرات عديدة شركاءه بالانخراط في حرب الساحل معه، لكنّه لقي ردوداً «باهتة» على طلبه. ألمانيا، بدورها، كانت الأكثر تحمّساً للطلب الفرنسي، إذ جدّدت في كانون الأول الماضي نيّتها الاضطلاع بمزيد من المسؤوليات العسكرية في منطقة الساحل في مواجهة «الخطر الجهادي»، بيد أن الأمر أثار انقساماً حاداً في الائتلاف الحكومي الذي تقوده المستشارة أنجيلا ميركل. وفي حين اكتفى «الاشتراكيون» برفض دعوة الوزيرة، دعا حزب «اليسار» إلى إنهاء عمليات الجيش الألماني في الخارج. وعليه، لم يتبقّ سوى ‏ملاذ واحد أمام ماكرون، وهو اللجوء إلى منظمة حلف «شمال الأطلسي» (الناتو)‏‎.‎
 
«اقتصادي بغطاء عسكري»
يبقى أن التدخل العسكري الفرنسي في الساحل، رغم أهدافه الأمنية المعلنة، لا يمكن أن يخرج عن دائرة الاستقطاب الدولي في أفريقيا، ذي الطابع الاقتصادي والتجاري. في هذا السياق، يعلّق السالك بالقول: «الفاعلون الدوليون آخذ وجودهم في التصاعد هناك،»، في إشارة إلى الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي.
ويضيف أن «منطقة غرب أفريقيا والساحل، منطقة ثرية اقتصادياً من حيث النفط والغاز واليورانيوم... والشركات الفرنسية حاضرة فيها بقوة، لكنها تجد منافسة من نظيراتها الأوروبية العالمية». ويلفت إلى أن أي تسابق على الاهتمام بالمنطقة ستكون «بوابته حتماً المجال الأمني». ثم إن قوة «برخان» هي سابع عملية عسكرية فرنسية في أفريقيا، منذ 2006، ويتحدث عن أن فرنسا تدخلت في أفريقيا حوالى 50 مرة منذ 1960، تاريخ استقلال معظم بلدان غرب أفريقيا والساحل. وهنا يرى أنه لهذا السبب «يعتبر جزءٌ من الرأي العام في المنطقة أن أيّ تدخل عسكري في المنطقة هو أقرب إلى استعمار جديد منه إلى طرد شبح الإرهاب».
وجهة النظر هذه أكدتها لموقع «ميديابار» الفرنسي الكاتبة فاني بيجو، إذ نشرت العام الماضي مقالاً قالت فيه إن باريس تعمل على «حماية مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، وذلك أن منطقة الساحل الأفريقي تعد بمثابة مخزن من الثروات المنجمية الجاهزة للاستغلال». وأضافت أن فرنسا أيضاً «تدخّلت لحماية إمدادات اليورانيوم من النيجر، والتي تلبّي 30% من احتياجات المحطات النووية في فرنسا». ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 50% هذه السنة. وهذا ما يفسّر تمركز العشرات من عناصر قيادة العمليات الخاصة الفرنسية على مقربة من مناجم مدينة أرليت وأكوكان، التي تستغلها شركة «آرافا» الفرنسية.
كذلك أشارت بيجو، خلال مقالها، إلى تقرير برلماني حول «تطور النظام العسكري الفرنسي في أفريقيا» نُشر سنة 2014، يقول إن «الوجود العسكري يعدّ جزءاً من أساليب التأثير التي يمكننا من خلالها التأكد من أن صوت فرنسا سيستمر في الارتفاع أكثر في أفريقيا مقارنة بباقي الدول الأخرى، «التي تركز على الثروة والمصالح الاستراتيجية في هذه القارة»، فضلاً عن أن السوق الأفريقية للسلاح توفر «إمكانات تصديرية واعدة للمصنّعين الفرنسيين». كما، لفتت الكاتبة إلى تقريرٍ برلماني آخر، نُشر سنة 2015، تم التأكيد فيه أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي يسهم في تحسين «جودة التجهيزات العسكرية الفرنسية، وتعزيز فرص صناعة الأسلحة الفرنسية والأوروبية الموجّهة للتصدير».
 
«تركة ثقيلة»
«الرئيس ماكرون لم يختَر الانخراط العسكري في الساحل، إنّه وضعٌ وَرِثه عن سلفه. لكي لا يتورط، سيربح حتماً إذا شرع مع نظرائه في الساحل في بدء تحوّل استراتيجي على مستوى سياسات إدارة الأزمة: (رسم) مسارات سياسية وطنية من شأنها إتاحة حوار مع جزء من المتمردين، وعلى مدى أطول، اكتساب بيئتهم الداعمة مجدداً، وإخضاع العمل العسكري لهذه الرؤية السياسية». هذا ما كتبه جان ــ ارفيه جيزيكل في مقالٍ نُشر على موقع «مجموعة الأزمات الدولية». وتابع أنّ «هذا يتطلب من فرنسا ومن عسكرييها القبول بأن يعملوا في خدمة استراتيجية سياسية تحددها المجموعات التي يدعمونها. هذا يغيّر العادات المتّبعة منذ زمن»، متسائلاً: «ولكن إذا كانت فرنسا في الساحل لمساعدة الدول، فمنطقياً هل ثمة خيار آخر؟». وقال قبل ذلك «من دون مشروع وإدارة سياسية جديدين، فإنّ النخب الساحلية الحاكمة ستخفق في استعادة كل الذين يرون في النظام الذي يقيمه الجهاديون نظاماً غير مثاليّ ولكن على الأقل إنّ حضوره أكثر فعالية ومنفعة من حضور الدولة».