مُناورات الناتو في ظلّ عالمٍ مُتغيِّر.. ترامب وجدوى الحلف

مُناورات الناتو في ظلّ عالمٍ مُتغيِّر.. ترامب وجدوى الحلف

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢٦ فبراير ٢٠٢٠

لم ينقطع قلق النُخَب السياسيّة الأميركيّة حيال مستقبل حلف الناتو، وخصوصاً بعد نهاية الحرب البارِدة. قلَّة تطالب بحلّه، وآخرون يذهبون باتجاه تطويره وتوسيع رقعة تمدّده خارج نطاقات مسرحه الأساسي في ألمانيا.
 
وقد انضمّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ تسلّمه مهامه الرئاسية، إلى الفريق الأول، مُعتبراً أنَّ الحلف "عفا عليه الزمن"، ليبتزّ أعضاءه لاحقاً.
 
تميَّز المناخ السائِد بين تلك النُخَب وإفرازاتها الفكريّة والسياسيّة، وحتى العسكرية، بالنزعة العدوانيَّة وإظهار "تفوّق القوَّة الأميركية"، لردع كلّ مَن تسوِّل له نفسه تحدّيها عبر العالم، وهي نزعة طبعت التخطيط الاستراتيجيّ الأميركي عقب الحرب العالمية الثانية بشكلٍ ملموس. 
 
يأتي ذلك على الرغم من "تواضع الإنجازات العسكريّة... فمنذ الحرب الكورية، لم تنتصر الولايات المتحدة في أّية حرب ضدّ أيّ عدو، وهذا يكشف عن خَلَلٍ في التطبيق الفعلي للقوَّة العسكرية الأميركية في العالم"، وفق وصف المؤرِّخ العسكري، أندريه مارتيانوف، في كتابه "فُقدان التفوّق العسكري"، 2018.
 
رسا قرار المؤسَّسة الأميركية الحاكِمة بعد تردّد البيت الأبيض على الاستمرار في توسيع نطاق عمل الحلف، ورَفْدِه بأعضاء جُدُد أغلبهم في الدول الاشتراكية السابقة، بولندا مثالاً، وانضمام دولة "الجبل الأسود" التي يبلغ عديد قوَّاتها المُسلَّحة 2000 عنصر لا غير، ومُناشدتهم أوروبيي الحلف لتبوؤ مهامّ عسكرية خارج أوروبا.
 
حافظ الرئيس الأميركي ترامب على تنويع ابتزازه للدول الأوروبية المركزيّة، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، لزيادة إنفاقها العسكري مقابل "الحماية الأميركية"، فاستجابت لطلبه بعد تردّد، ما حفَّز البيت الأبيض على تجديد التزامه بحلف الناتو.
 
تحدَّث الرئيس الأميركي هاتفياً إلى رئيس حلف الناتو، جينس شتولتنبيرغ، في 8 كانون الثاني/يناير، مُطالباً "بتوسيع نشاط الحلف إلى الشرق الأوسط، ورَفْد الجهود لمُكافحة الإرهاب الدولي".
 
وفي السياق عينه، عقد حلف الناتو "مؤتمر ميونيخ للأمن – 2020" مُنتصف الشهر الجاري، ما أثار جدلاً عميقاً بين الأوروبيين بعد خطاب وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، وإصراره على أنّ "الغرب ينتصر"، كمُحفّزٍ دعائي في مُوازاة توجّهات الحلف مع الاستراتيجية الأميركية إلى مُحاصَرة الصين وروسيا وإيران.
 
من جانبهم، استهجن الأوروبيون تفاؤل بومبيو المفرط بتطوّرات الصِراع العالميّ، وبرز مُصطَلح توجّه العالم إلى "الإقلاع عن الغرب – Westless" في أروقة المؤتمر، في محاولةٍ لتحذير الضيف الأميركي فوق العادة.
 
من جملة ما أبلغ بومبيو الحلفاء أنَّ بلاده "تُقاتِل إلى جانبكم لبَسْطِ السيادة والحرية" في العالم، ما استدعى رفض عدد من القادة الأوروبيين واعتراضهم على مزاعِم واشنطن بصَوْنِ "سيادة" الدول، وهم المعنيون في الدرجة الأولى بالتخلّي مُكرَهين عن سيادتهم. 
 
وأضاف بومبيو في خطابه: "الغرب الحرّ على أعتاب مستقبل أكثر سطوعاً مُقارنةً مع البدائل المُناهِضة لليبرالية. نحن ننتصر - ونُنجِز ذلك سوياً".
 
ورصدت وسائل الإعلام تكرار بومبيو مُصطلَح "ننتصر" 8 مرات في خطابه القصير. ونعته أحد الأوروبيين بأنَّه "كان أقرب إلى زوج يمارس العنف العاطفي ضد شريكته المُعتدَى عليها"، موضِحاً أنَّ أوروبا بمثابة الزوجة المُعتدَى عليها. (نشرة ديفينس وان، 21 شباط/فبراير).
 
الاستراتيجيّة المُتجدِّدة لحلف الناتو أوضحها رئيس الحلف شتولتنبيرغ في 15 كانون الثاني/يناير الماضي، بأنَّ "الولايات المتحدة والناتو يُعزِّزان وجودهما العسكري في أوروبا" لمواجهة روسيا والصّين. 
 
واستطرد مُطمئناً أقرانه إلى أنّ أميركا تحتفظ بقواتٍ عسكريةٍ في دول أوروبا الحليفة "أكثر من أيّ وقتٍ مضى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي" في العام 1991.
 
لم يعد الحلف في المفهوم الرسميّ الأميركيّ يتلطّى بمزاعِم وجوده لأسبابٍ "دفاعيّة"، كما درجت العادة خلال الحرب البارِدة، بل ارتدى عباءة عسكرية عدوانية تحرّكها واشنطن لتقويض روسيا ومُحاصرتها، كما شهدنا، بمُشاركة بريطانيا وفرنسا في قصف أهداف داخل سوريا.
 
وأعلن الحلف عن البدء بمُناوراتٍ عسكريةٍ ضخمةٍ غير مسبوقة في آذار/مارس المقبل، تحت مُسمَّى "المُدافِع عن أوروبا - 2020"، ستكون الأكبر والأشمل منذ 25 عاماً، وستشارك فيها الولايات المتحدة بقواتٍ إضافيةٍ تستقدمها من قواعدها داخل أراضيها، وقوامها 20000 عنصر، تُضاف إلى القوات الأميركية الموزَّعة في أوروبا، ليصل الإجمالي الأميركي إلى نحو 37000 عسكري، بينما سيبلغ مجموع القوى المُشارِكة نحو 40000 عنصر أو أكثر.
 
وأوضحت القيادة العسكرية الأميركية لأوروبا، على موقعها الإلكتروني، الأهداف المُضْمرَة للمُناورات الضخمة، مُشيرةً إلى أنها "ستدعم الأهداف التي حدَّدها حلف الناتو للارتقاء بالجهوزيّة داخل التحالف ورَدْع الخصوم المُحتملين"، أي الإعداد لحربٍ مُحتَمَلةٍ مع روسيا.
 
وأوضح القادة العسكريون الأميركيون أنَّ من المُرجَّح أن تصبح مُناورات "المُدافِع" طقساً سنوياً يُعْقَد مرتين كلّ عام، بالمُداورة بين أوروبا وفي المحيط الهادئ. وسارع رئيس الحلف شتولتنبيرغ إلى تبديد مخاوف روسيا، بالزعم أنَّ المُناورات "ليست موجَّهة ضدّ دولة مُحدَّدة"، وذلك في 3 شباط/فبراير الجاري.
 
وفي اليوم التالي (4 شباط/فبراير)، ردَّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بقوَّة، موضِحاً أنَّ "المخاطِر والتهديدات التي تواجهها البشرية بلغت ذروتها في مستوياتٍ لم نشهدها من قبل خلال مرحلة ما بعد الحرب" العالمية.
 
وشدَّد لافروف على أنَّ "روسيا ستردّ على المُناورة العسكرية الأميركية في (أوروبا)... لكنها ستعمد لتفادي أيّة مخاطِر غير ضرورية".
 
وكان وزير الخارجية الصيني أشدّ حدةً من نظيره الروسيّ، إذ "دان الغرب لعقليّته الباطنية التي تنشد التفوّق الحضاري"، ولكنّ الردّ الصينيّ القاسي كان موجَّهاً إلى وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، لزَعْمِه أنّ "مفهوم الغرب لا يُحدِّده مكان أو قطعة أرض مُعيَّنة، بل أية دولة (أمّة) تتبنّى نموذج احترام الحريات الفردية والسوق الحر والسيادة الوطنية.. إنها جزء من هذا الفَهْم للغرب"، مُستطرداً أن مفهوم "السيادة يُعزِّز عَظَمتنا (تفوّقنا) الجماعية".
 
وجاء التقرير الخِتامي لمؤتمر ميونيخ للأمن مُتّسقاً مع توجّهات واشنطن العدوانية، عبر إشارته الصريحة إلى حقّ دول الحلف بالتدخّل عبر القول: "في عصر ما بعد الحرب البارِدة، تمتّعت التحالفات التي يقودها الغرب بحرّية التدخّل في أيّ مكانٍ تقريباً. وفي مُعظم الأحيان، وجدت تأييداً من مجلس الأمن الدولي".
 
وستُجرى مُناورات حلف الناتو التي ستمتدّ نحو شهرين بمُحاذاة الحدود الروسيَّة وروسيا البيضاء/بيلاروسيا، التي أعرب وزير دفاعها في مينسك، أندريه راكوف، عن قلق بلاده العميق، نظراً إلى "تزايُد الحضور العسكري للناتو في دولٍ مُجاوِرة، وتضخّمه 13 مرة خلال 6 سنوات، ارتفع فيها عدد القوات من 550 عنصراً إلى 7000 عسكري، وتضاعفت المعدَّات العسكرية المختلفة 5 مرات".
 
ولفت وزير الدّفاع إلى زيادة الإنفاق العسكريّ لدول الحلف "المجاورة" لبلاده عما كانت عليه سابقاً، منها "بولندا بنسبة 30%، ليتوانيا بمرتين ونصف المرة، ولاتفيا 3 أضعاف".
 
وفي المُثلّث الاستراتيجي بين بولندا وليتوانيا، تقع مقاطعة كالينينغراد الروسية التي كانت جزءاً من أراضي الاتحاد السوفياتي السابق، ويعتبرها حلف الناتو "بؤرة روسيا في أوروبا"، نظراً إلى عدم وجود حدود مباشرة لها مع روسيا الأمّ. 
 
وقد استضافت المُقاطعة 4 مباريات لكأس العالم في العام 2018، ويتَّخذ أسطول بحر البلطيق الروسي من كالينينغراد مقرَّاً لقاعدته الحربية. 
 
ارتبطت كالينينغراد بروسيا تاريخياً منذ العام 1758. وقد وافق الحلفاء على تبعيَّتها لروسيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية. تعرَّضت المُقاطعة لاختراق أجوائها والتجسّس على القاعدة البحرية الروسية من قِبَل مُقاتلات وطائرات تابعة لحلف الناتو "800 مرة خلال العام 2019"، نظراً إلى أهمّيتها القصوى، واعتبار الناتو أنها تشكّل "تهديداً أمنياً" لأعضائه.
 
وأعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مِراراً عن توجّهه إلى بناء قوَّةٍ عسكريةٍ أوروبيةٍ بديلةٍ من حلف الناتو الّذي "مات دماغياً" في كانون الأول/ديسمبر الماضي، بَيْدَ أنَّ الوقائع العملية تشير إلى ارتهان الموقف الفرنسي لأميركا وتبعيّته التامة لها، وأبرزها شنّ سلاح الجو الفرنسي غارات داخل سوريا دعماً للحليف الأكبر. وستشارك بلاده بفعاليَّة، إلى جانب ألمانيا، في مُناورات الحلف المذكورة.
 
من جانبها، استُثنِيَت تركيا من المُشارَكة في مُناورات الحلف الذي تعمَّد إشراك جارتها جورجيا في مناوراتٍ تجريها قوات المظلّيين على أراضيها. والسبب، على الأرجح، تعبير واشنطن وألمانيا عن ضيقهما ذَرْعاً بابتزازات الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان، وإبلاغه بأنَّ الحلف قادِر على إجراء مُناوراته في المنطقة من دون الحاجة إلى دعم تركيا.
 
ولا تتَّسق أهداف واشنطن بمُحاصَرة روسيا، وربما افتعال حرب معها، بالضرورة مع مخاوف الأوروبيين، ولا سيما ألمانيا وفرنسا، والخشية الفعلية من انتهاجِ سياسةٍ عدائيةٍ تجاه موسكو، بَيْدَ أنَّ القرار النهائي يبقى رهيناً لواشنطن وابتزازها الدائم لحلفائها المُخلصين.
 
تجدر الإشارة إلى أنَّ الطّوْق العسكريّ الأميركيّ المُحْكَم ضدّ روسيا والصين، قوامه 400 قاعدة عسكرية "مُنتشرة من شمال أستراليا، مروراً بمياه المحيط الهادئ، وانتهاء بآسيا الوسطى وشرقها" ودول أوروبا الشرقية السابقة، فضلاً عن القواعد الأميركية في تركيا.
 
وكشفت روسيا أخيراً عن نيّات الحلف، بقيادة واشنطن، استهداف الصين، عبر تصريح للناطِق بلسان وزارة خارجيّتها، ماريا زاخاروفا، في 16 شباط/فبراير الجاري، مُحمّلةً الحلف مسؤولية "تصنيف الصين كخطرٍ يُهدِّد البشرية جمعاء.. وتضمَّنت خطابات مؤتمر ميونيخ نزعة إلى إحياء الطابع الاستعماري/الكولونيالي للغرب...".
 
وفي هذا السياق، تنبغي العودة إلى جذور السياسة الخارجية الأميركية التي تبلوَرت مع نهاية الحرب العالمية، بنشر واشنطن "مبدأ ترومان" في العام 1948، والذي ينصّ على الارتكاز على القوَّة العسكرية الصرفة في تحقيق الأهداف الأميركية.
 
وأوضح مُعِدّ المبدأ، ومدير التخطيط السياسيّ في وزارة الخارجية، جورج كينان، توجّه بلاده، "إذ ينبغي الإقلاع عن الحديث عن رَفْعِ مستوى المعيشة والدفاع عن الحقوق الإنسانية وتجذير الديمقراطية. الزمن الذي سنضطرّ فيه إلى تطبيق القوَّة العسكرية الصرفة ليس بعيداً"، مُناشداً صُنّاع القرار بعدم "التقيّد بشعاراتٍ مثالية".
 
بعبارةٍ أخرى، تسعى واشنطن إلى مَنْعِ تعدّد القطبيّة الدوليّة، نتيجة التطوّرات الدولية والإقليمية في القرن الحالي. ويعتقد ترامب، المهووس بعَظَمَةِ أميركا، بأنّه سيتمكَّن من تكريس "القُطب الواحد المُهيمن على العالم" عبر القوَّة العسكرية المُجرَّدة.