بريطانيا من «مناعة القطيع» إلى احتواء الفيروس... متأخرةً!

بريطانيا من «مناعة القطيع» إلى احتواء الفيروس... متأخرةً!

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢٥ مارس ٢٠٢٠

أخيراً، قرّر بوريس جونسون الإغلاق التام في بريطانيا. قرار سبقه تخبّط واضح، ومسار مليء بالتناقضات، وربما أيضاً الجهل، في كيفية التعاطي مع تفشي فيروس «كورونا»
استلزم الأمر أكثر من تسعة أسابيع، لتواجه حكومة بوريس جونسون لحظة الحقيقة، وتتقبّل فكرة أنّ فيروس «كورونا» لن يتبخّر لوحده، أو عبر اعتماد استراتيجية «مناعة القطيع»، أو بالاستناد إلى نظريات العلم السلوكي، وغيرها من الأساليب التي استدار إليها جونسون، متجنّباً مجرّد النظر إلى إعلان الإغلاق العام، حتى ثلاثة أيام خلت.
فبينما كان الأوروبيون يغلقون المدارس، وينشرون الجنود في الشوارع لفرض قواعد الحجر الصحي الصارمة - متأخرين حوالى أسبوعين عن اتباع هذه الإجراءات - كانت نصيحة الحكومة البريطانية لمواطنيها: «الحفاظ على الهدوء والاستمرار». بقيت المدارس والمطاعم والمسارح والنوادي والأماكن الرياضية مفتوحة؛ فقط الذين تصل أعمارهم إلى أكثر من سبعين عاماً، وأولئك الذين يعانون من أعراض مشابهة لأعراض الإنفلونزا، نُصحوا بالبقاء في المنزل. كان ردّ الفعل البريطاني الرسمي مدفوعاً بنظرية مثيرة للجدل، تبنّاها كبار العلماء لدى حكومة المملكة المتحدة، وهي أنّ «أفضل طريقة لتخفيف العواقب الطويلة المدى لوباء كورونا، تكون عبر السماح للفيروس بالانتشار بشكل طبيعي، من أجل بناء مناعة القطيع بين السكان».
نظرية لاقت ردود فعل عنيفة، وانتقادات من أطباء وعلماء وسياسيين في الداخل والخارج. إلّا أنّ الحكومة كانت ترد على كلّ ذلك، مؤكدة أنها لا تتبع استراتيجية «مناعة القطيع» بشكل صريح، ولكنّها تدير الأزمة مسترشدة بالأدلة. ولكن هل كانت فعلاً بحاجة لأدلة، بعدما شهدت كل ما يجري في العالم، وفي الدول الأوروبية المجاورة؟
يُدرك الجميع الطبيعة الاستثنائية لحالة فيروس «كورونا»، ويفهمون أنّه ستكون هناك أخطاء في معالجتها. ولكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن الحكومة البريطانية فشلت في استيعاب الدروس من البلدان التي أصيبت قبلها، بل كان بإمكانها تتبّع المسار منذ بدء ظهور الفيروس إلى تفشّيه، لتعرف أنّ ما ينطبق على ووهان وإيطاليا وغيرهما، سينطبق على المملكة المتحدة، أيضاً.
يمكن تلخيص هذا المسار بتسعة أسابيع، كان بإمكان الحكومة البريطانية استغلالها، قبل انتشار فيروس تمكّن إلى الآن من زعزعة وهزيمة أحد أهم الأنظمة الصحية في العالم، إن كان في فرنسا أو إسبانيا أو في دول أخرى، ولن يصعب عليه ضرب النظام الصحي للمملكة. تسعة أسابيع، منذ تمّ تأكيد انتقال الفيروس من إنسان إلى آخر، في منتصف كانون الثاني، وما تلاه من انتشاره في مقاطعة هوبي الصينية. تسعة أسابيع، كانت كافية بالنسبة للحكومة البريطانية، للاستماع والتعلّم والتجهيز. تسعة أسابيع، كانت كافية لإجراء عمليات محاكاة التفشّي، وضمان وجود معدّات وقاية شخصية، وأجهزة تنفّس، وإتاحة اختبارات سريعة ورخيصة. تسعة أسابيع كافية لوضع برامج تساعد على تتبّع مصدر الفيروس، وبدء حملات توعية جماعية، ليس فقط بشأن غسل اليدين، ولكن بشأن المخاطر التي قد يشكّلها الفيروس على النشاط الاجتماعي والاقتصادي، إذا لم يأخذه الجميع بجدية.
لم تكن المملكة المتحدة بحاجة إلى عنصر الصدمة للتعامل مع «كورونا»، كما جرى أخيراً، عندما أعلن جونسون الإغلاق التام، وقبلها بأيام إغلاق الحانات والمطاعم، ليسبق ذلك بأيام إغلاق المدارس... وكان يكفي اللجوء هذه الإجراءات بالاعتماد على تجارب الدول السابقة، والدراسات التي نُشرت، في هذا المجال، والتي تؤكد أن هذا الفيروس لا يمكن القضاء عليه، سوى بالاحتواء.
ولكن لا! فضّل جونسون التروّي؛ وفي 12 آذار، أي بعد أكثر من شهر على ظهور أول حالة انتقال محلّي لفيروس «كورونا»، في 29 شباط، أصدرت الحكومة إعلاناً مثيراً للاستغراب والجدل، مفاده أنّ جميع الاختبارات السريعة، ومساعي تتبّع مصدر الفيروسات، ستتوقف. أمّا العزل، فسيكون من نصيب أولئك الذين يعانون من الأعراض، أو الذين تصل أعمارهم إلى أكثر 70 عاماً. كان كلّ ذلك جزءاً من استراتيجية «مناعة القطيع». استراتيجية تحطّمت أمام أول دراسة واجهتها، بعدما كانت قد تغافلت عن دراسات سابقة، أبرزها التي نُشرت في مجلّة «لانسيت»، وتُظهر أنّ ثلث المرضى يحتاجون إلى العناية المركزة، و29% يصبحون بحالة سيئة للغاية لدرجة أنهم يحتاجون إلى أجهزة تنفّس. بمعنى آخر، فإنّ النظام الصحّي البريطاني لن يتمكّن، بأي حال من الأحوال، من الصمود في وجه تفشّي الفيروس.
17 آذار كان التاريخ المفصلي للشعب البريطاني، بعدما أصدرت جامعة «إمبريال كولدج ــــــ لندن» وكلية لندن للصحة، دراسة راجعت في إطارها النموذج الذي تتبعه الحكومة (مناعة القطيع). أوضحت الدراسة أن قمع أو احتواء الفيروس، هو في الواقع أفضل طريقة لتجنّب وفاة عدد كبير من الناس. وإذ تطرّقت إلى ما حصل في إيطاليا، أوضحت أنّ ما يصل إلى 30% من المرضى الذين دخلوا المستشفى بسبب الفيروس، سيحتاجون إلى العناية المركزة. بالتالي، إذا تكرّرت هذه الأرقام في المملكة المتحدة، ستؤدي إلى تهالك نظام «الخدمات الصحية الوطنية» الذي تديره الحكومة.
بناء عليه، قامت حكومة المملكة المتحدة باستدارة 180 درجة، متخذة القرار باعتماد الإجراءات التي اتخذتها الدول الأخرى، لتأخير انتشار الفيروس: إغلاق المدارس، والطلب من الأُسر عزل نفسها لمدة 14 يوماً، والتركيز على توسيع نطاق الاختبار إلى 25 ألف اختبار يومياً، خلال الشهر التالي. تبع ذلك إعلان جونسون، على مضض، إغلاق الحانات والمطاعم والمساحات الاجتماعية، ليليه إعلان الإغلاق التام على مدى ثلاثة أسابيع.
يتحرك جونسون الآن بسرعة، لكن ذلك لا يلغي أن قراراته الأخيرة، على صحّتها، جاءت متأخّرة، وليس من الواضح إن كانت ستحول دون إرهاق النظام الصحي البريطاني. وبحسب افتتاحية صحيفة «ذا غارديان»، قبل يومين، تشير البيانات إلى أنّ تفشي فيروس «كورونا» في المملكة المتحدة، يتبع مساراً مشابهاً لإيطاليا. الصحيفة ذكرت أنه في حال تقدّم المرض كما يتوقع العلماء، فإنّ عدد القتلى سيرتفع إلى حوالي 5000 في غضون أسبوعين. هي الحقائق الوحشية، إذاً، التي أدت إلى تحوّل كبير في سياسة الحكومة، عبر استبدال نهج «مناعة القطيع» بسياسة أكثر «عدوانية».
ولكن ذلك لا يلغي واقع أن هذه الحكومة ذاتها أهدرت أسابيع ثمينة، انتهجت خلالها نوعاً من التقلّبات والمنعطفات، أدت إلى خلق مناخ من عدم الثقة بينها وبين الناس. هؤلاء باتوا يتساءلون ما إذا كانت حكومة بلادهم تستجيب لمصلحتهم، في وقت لم يعد أحد قادراً على أن يستشف ما هي استراتيجيتها، أو مدى جديتها في محاربة الفيروس وخطره على صحّتهم. في المحصّلة، جعلت استراتيجية «مناعة القطيع»، الناس يعتقدون بأن الحكومة تريد من الجميع الحصول على الفيروس لحماية الاقتصاد، وأنّها لا تتخذ إجراءات أكثر حسماً، لأنه لا يشكّل تهديداً خطيراً، أو على أبعد تقدير، هي لا تعرف ما تفعله.
ومن الآن فصاعداً، بات المواطن البريطاني أمام ثلاثة مخاوف رئيسية: حماية سبل عيشه؛ إن كان النظام الصحي سيتكيّف؛ وهل سيكون هناك ما يكفي من الطعام في حال استفحال الأزمة.