اتّساع الهوّة لا يعني الحرب الأهلية: مبالغات الصراع السياسيّ في إسرائيل

اتّساع الهوّة لا يعني الحرب الأهلية: مبالغات الصراع السياسيّ في إسرائيل

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٣ أغسطس ٢٠٢٠

يبدو الحديث في تل أبيب عن الاقتتال الداخلي بين المكوّنات اليهودية للدولة العبرية لافتاً وجديراً بالمراقبة. وهو حديثٌ لا يقتصر على تقارير وتعليقات في وسائل الإعلام، بل بات يجري على ألسنة مسؤولين إسرائيليين مختلفي الميول والانتماءات السياسية. من بين هؤلاء الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، الذي حذّر مراراً في الآونة الأخيرة من أعمال العنف التي من شأنها التسبّب بالفوضى وزوال الدولة «التي نعرفها». تحذيراتٌ جاءت أيضاً على لسان وزير الأمن، بني غانتس، الذي شدّد، بدوره، في أكثر من مناسبة، على ضرورة تفادي الحرب الأهلية عبر نزع فتيل تفجيرها، فيما كانت لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه تعبيرات دالّة على خشيته من الفوضى والعنف في الشارع.
 
هذه التحذيرات باتت تتسيّد أيضاً وسائل الإعلام المتماهية مع هويّاتها السياسية، وإن كان أكثرها جدّية ينبّه إلى أن الخلافات التي تتمّ تغذيتها من الموالاة والمعارضة على السواء تدفع نحو مسار تصاعدي من العنف في الميدان، من شأنه أن يفضي إلى شكل من أشكال الحرب والاقتتال الداخلي. وتَعزّز الكلام عن تلك الاحتمالات مع التظاهرات التي تشهدها إسرائيل ضدّ نتنياهو، والموصّفة يمينياً على أنها تظاهرات «اليسار الحاقد» المفرّط بأرض إسرائيل، فيما يدعمها اليسار على اعتبار نتنياهو أحد أهمّ رموز اليمين الفاسد الذي يقامر بأمن إسرائيل.
على أن تظاهرات آلاف الإسرائيليين ضدّ نتنياهو بأشكال عنيفة نسبياً، وكذلك التحرّشات اليمينية بهم، لا تُعدّ دليلاً على قرب وقوع حرب داخلية إسرائيلية. وما التحذيرات المتصاعدة في هذا الإطار، والتي تبدو مبالغاً فيها، إلا واحدة من تجلّيات تبادل إلقاء اللوم بين الأطراف السياسيين في التسبّب بكوارث للدولة العبرية، وإن كانت التظاهرات في ذاتها مؤشّراً إلى أن الهوّة بين المكوّنات الإسرائيلية بدأت بالاتساع قياساً بما مضى.
في الخلفية، يبدو المشهد في إسرائيل متداخلاً ومشوّشاً، على رغم أنه في الواقع امتداد لأزمة نتنياهو نفسه الذي يتمسّك بكرسي رئاسة الحكومة، ويسعى جاهداً - وإن على حساب المصلحة العامة - إلى تفادي محاكمته في ملفات فساد ورشى. في المقابل، يجتهد خصومه السياسيون - الذين يوصفون خطأ باليسار - في إسقاطه والتخلّص من ظلاله، بما يعبّد الطريق أمام عملية تداول السلطة كما كانت في الماضي، بعدما رست طويلاً على نتنياهو من دون وجود منافس حقيقي له، سواء في معسكر اليمين أو في خارجه.
وفي هذا السياق، تظهر الاحتجاجات - الواسعة نسبياً - في المدن الإسرائيلية كأسلوب أخير من أساليب خصوم نتنياهو لإحراجه فإخراجه من الحكم، بعدما ثبتت قدرته الهائلة على مواجهة الأساليب التقليدية لإسقاطه - وإن كانت قانونية -، عبر تطويع النصوص والتسويف في تنفيذها والاحتيال عليها والقفز فوقها، وكذلك في ما يتعلق بالأعراف التي كان يتمسّك بها مَن سبقوه في المنصب، إلى حدّ أنه تجاوز حتى الآن قطوع اتهامه وبدء محاكمته، من دون أن يتزحزح عن منصبه.
 
تملك إسرائيل الدولة أدوات فرملة الاقتتال الداخلي إن لامس حدّ التهديد الفعلي
 
وإن كان مشهد التظاهر ضدّ نتنياهو يتعاظم يوماً بعد يوم، ويُعمَل على تغذيته من قِبَل خصوم الرجل السياسيين، إلا أن رئيس الوزراء - وكما هي عادته - اشتغل على تحويل التهديد إلى فرصة، إذ، وبدل الاستسلام لإرادة المتظاهرين بتنحّيه عن السلطة، سعى إلى تصوير الاحتجاجات على أنها مُوجّهة من اليسار ضدّ رمز اليمين، أي هو نفسه، ما يكفل له تأييد نصف الإسرائيليين - بل وأكثر - لبقائه. ومن هنا، اعتبر نتنياهو التظاهرات نوعاً من التحريض على اغتياله وعائلته، وشَبّه نفسه برئيس الحكومة السابق إسحاق رابين، الذي اغتيل على خلفية تحريض يميني ضدّه. وهي السردية التي يرفضها المتظاهرون وداعموهم، ويرون فيها نوعاً من التحايل على الواقع ومحاولة لإفراغ تحرّكهم من فاعليته وتأثيره. وفي هذا الإطار، رأت صحيفة «هآرتس» أن الفرق بين رابين ونتنياهو هائل: فالأول لم يعمد إلى تظهير نفسه ضحية لكنه انتهى إلى ذلك المصير؛ فيما نتنياهو يجهد ليصوّر نفسه ضحية، ليست في الواقع إلا الجمهور الإسرائيلي نفسه.
بناءً على ما تقدّم، يبدو التظاهر تعبيراً عن رفض نتنياهو من قِبَل شريحة إسرائيلية وازنة، يئست من إمكانية إسقاطه عبر الطرق التقليدية، ومن بينها اتهامه بارتكاب جرائم. في المقابل، يرفض نتنياهو الإملاء عبر الشارع، ويواصل محاولاته إفراغ التظاهرات من مضمونها، تماماً مثلما فعل حيال العديد من القضايا التي واجهته في السنوات الأخيرة. لكن، يبقى السؤال: هل يمكن أن يتسبّب استمرار التظاهرات بمواجهات عنيفة يبادر إليها اليمين؟ وهل يؤدي التحريض على إكمال المواجهة من قِبَل خصوم نتنياهو إلى المسّ بالأخير مثلما حصل لرابين؟ وهل أيّ من السيناريوهات المتقدّمة يمكن أن يدفع في اتجاه شكل من أشكال القتال الداخلي؟
الأسئلة كثيرة، وفرضياتها لا تخرج عن دائرة المعقولية النسبية. لكن مما يتبدّى إلى الآن، يبقى الحديث عن الحرب الأهلية مدار استخدام اتهامي بين المتنافسين، لأن حرباً كهذه تبدو بعيدة جدّاً، وخصوصاً أن إسرائيل الدولة تملك أدوات فرملتها إن لامست حدّ التهديد الفعلي. وهذا التوصيف يبقى سارياً حتى وإن تطوّرت الأمور سلباً إلى حدّ تصاعد أعمال العنف المتضادّ في الشارع.
 
 
نتنياهو مجدّداً: أنا ضحية مؤامرة
تطرّق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمس، في مستهلّ جلسة الحكومة، إلى التظاهرات المتواصلة ضدّه في أكثر من مدينة، متّهماً المتظاهرين بمحاولة الدوس على الديمقراطية والتحريض على العنف والفوضى. كما اتّهم معظم وسائل الإعلام بأنها لا تنقل الوقائع بموضوعية، بل تعمل على تأجيجها. وإذ قال إنه يدين العنف بكلّ صوره، توعّد بأنه لن يتسامح مع أيّ مظهر من مظاهره أو التهديد به من أيّ جهة كانت وضدّ أيّ شخص كان.
وفيما ألمح إلى أصوات تحرّض على الإضرار به من دون تفاصيل، ذكر الصحافي الإسرائيلي، عميت سيغل، المقرّب منه، أن رئيس الحكومة مقتنع بأن هناك من سيحاول اغتياله وعائلته، و«هو يتجوّل مع هذا الشعور، ومن يتحدّث معه يسمع منه إشارات حول ذلك». وكيفما اتفق، يبدو أن نتنياهو يعمل على توظيف التظاهر ضدّه لتظهير نفسه ضحية مؤامرة من اليسار، وهو ما ينجح فيه إلى الآن.
في المقابل، رأى رئيس المعارضة في الكنيست، يائير لابيد، أن نتنياهو يعيش حالة هستيريا نتيجة التظاهرات ضدّه، معتبراً أن التظاهر حق أساسي لأيّ إسرائيلي وليس حراكاً ضدّ الديمقراطية. ولفت لابيد إلى أن التظاهرات تنمو وتتعاظم، مضيفاً أنها نتيجة إخفاق نتنياهو في إدارة الأزمة الصحية والفشل في التعامل مع البطالة وضائقة الإسرائيليين، إذ أن «رئيس الحكومة مشغول عن كلّ ذلك بمزاياه الضريبية وملفاته الجنائية».