لا عودة إلى الوراء: نظام «العولمة الليبرالي» يلفظ أنفاسه

لا عودة إلى الوراء: نظام «العولمة الليبرالي» يلفظ أنفاسه

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٨ أبريل ٢٠٢٢

شكّلت العملية العسكرية الروسية الخاصة لحظة تحوُّل حقيقية في «الفضاء الروسي». أعلنت موسكو بحزم استعدادها الكامل للدفاع عن حقّها الوجودي في مواجهة العولمة العدائية المتجسّدة بهيمنة الولايات المتحدة، وتوسّع «الناتو» وسياسة «علْم التدخلات الليبرالية». احتدام المواجهة يشير، من دون أيّ التباس، إلى أن ما يجري يدور حول شيء أكبر بكثير من مصير نظام كييف. في الواقع، باتت هندسة النظام العالمي وهيكلته على المحكّ. ومن الصعب بمكان، تحديد أو التكهّن بملامح خطوطه العريضة (النظام العالمي الجديد) انطلاقاً من الوضع القائم، إلّا أنه يمكننا القول بثقة... لا عودة إلى النظام القديم.
ستضع العملية العسكرية الروسية، بلا شكّ، نهايةً لمحاولات تحويل أوكرانيا إلى دولة دمية معادية لروسيا (...) وكما يُقال: «مهما قفزت عالياً، لا يمكنك القفز بعيداً عن نفسك!»، لا سيما أن الولايات المتحدة ومعظم دول «الناتو»، ليست مستعدة للذهاب أبعد من تقديم الدعم المادي والمعنوي للسلطة الانقلابية المسلّحة في كييف. في الوقت الراهن، ترى واشنطن أن مهمّتها الأساسية تدور حول إطالة أمد الصراع قدر المستطاع، وجعله أكثر كلفةً على موسكو وكييف، وتوازياً عدم السماح بانتشار التصعيد في اتجاه الغرب.
لهذا، يجري استخدام أبشع الأساليب وصولاً إلى حد إرسال مقاتلين مسلّحين إلى داخل الأراضي الأوكرانية (...). وكما يؤكد الـ«استراتيجيون» الأميركيون، يسعى «الناتو» إلى تحويل أوكرانيا إلى «ما يشبه أفغانستان». ولكلّ مَن لديه حدّ أدنى من الإلمام التاريخي والجغرافي، يدرك بوضوح عدم وجود أيّ مجال للمقاربة. لكن، هل يمكن أن نتوقّع أكثر، من أولئك القادة الذين يخطئون ما بين ماريوبول ومتروبول، ويعتبرون فارونيج وروستوف مدينتين أوكرانيتين؟
بما أن الغرب لا يملك لا القوّة ولا الجرأة لتحدّي روسيا بشكل صادق وصريح، فهو يحاول إطباق حصار اقتصادي، إعلامي وإنساني على بلدنا، و خلْق جو «مسموم» لمنع استمرار الحياة الطبيعية فيها. يجري استخدام «ثقافة الإلغاء» التي فرضتها نخب اليسار الليبرالي الأميركي على منافسيها من اليمين الليبرالي، فيما يجري، الآن، توسيع نطاقه على مستوى العالم. فالعقوبات باتت تطاول كل شيء، بدءاً من الشركات الروسية، المصارف ووسائل الإعلام وصولاً إلى الصحافيين والرياضيين والعلماء والناشطين في المجالات الثقافية. هؤلاء يعاقبون على خلفية رفضهم تكرار شعارات «الغزو» الروسي لأوكرانيا (...). مستوى العبثية بلغ درجات قياسية، فحتى القطط الروسية مُنعت من المشاركة في معارض خارج الحدود. لكن القطط الروسية، اعتادت، وستتعايش مع أصعب من ذلك، ما لا يمكن أن ينطبق على المستهلكين الأوروبيين والأميركيين. فالحياة المريحة المؤمّنة خصوصاً للطبقة الوسطى، ظلّت، على مدى أعوام طويلة، إحدى ركائز الاستقرار السياسي في الدول الغربية. أما الآن، وبفضل إطلاق واشنطن ومن يدور في فلكها، «حملة صليبية» على روسيا، يواجه سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار الوقود والكهرباء والغذاء. إذ بدأت الدول الأوروبية، بالفعل، الاستعداد المعنوي لاحتمالات استخدام البطاقات التموينية وإيقاف أجهزة التدفئة المنزلية التي «يمكن بسهولة الاستعاضة عنها بسترات صوف»، وكل ذلك تحت شعار أو بحجّة مساعدة الشعب الأوكراني.
من المؤكد أن الماكينة الإعلامية الغربية تعمل بشكل ليس سيئاً؛ فضلاً عن ذلك، فإن المصادر البديلة للمعلومات إما يتمّ حجبها أو تتعرّض لضغوط شديدة. يجري إيقاف بثّ ليس فقط الوسائل الإعلامية التي تمتلك جمهوراً واسعاً مثل «آر تي» و»سبوتنيك» التي تُفرض عليها عقوبات حظر غير مسبوقة، بل تطاول العقوبات أيضاً الموارد والهياكل الإعلامية المتواضعة الصغيرة التي تجرّأت على ممانعة الخطاب الغربي الرسمي، مثل «نوفويه فوستوتشنويه أوبوزرينيه - نيو إيسترن أوتلوك»، ومركز الدراسات التحليلية «كاتيخون»، والمعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية.
في واشنطن وبروكسل، يحبون الترويج لموضوع «احتمالات المواجهة على مستوى الثلاجة والتلفزيون في روسيا». مع هذا، فإن «الثلاجة» الفارغة يمكن أن تكون أكثر خطورة على النخبة الأوروأطلسية نفسها. سنشهد صعوداً متنامياً للوعي المدني الحقيقي في الغرب، الموجه ليس نحو التهديد الروسي الأسطوري، بل في اتجاه القادة الغربيين أنفسهم، ما يجبر الأوروبيين والأميركيين العاديين على الدفع من جيوبهم ثمن مغامرات قادتهم الجيوسياسية وحساباتهم الخاطئة.
ويظهر واقع مثير للاهتمام، يعيدنا، إلى حد بعيد، إلى أواخر تاريخ حقبة الاتحاد السوفياتي: فالغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يحاول نشر مبادئ وتوجيهات أيديولوجية في العالم لا يؤمن هو نفسه بها، ويدحضها باستمرار بتصرفاته. وكما لاحظ الخبير الأميركي المتقدّم في علوم السياسة الدولية ف زكريا «إمبراطورية» استنفدت قواها بشكل مفرط وبشكل متدرّج تتحوّل إلى «قوى هيمنة منتفخة» لا يمكنها إثبات أدبياتها الرسالية بخطوات واقعية حقيقية. والأزمة الدائرة حول أوكرانيا، تؤكد هذا الاستنتاج بكل المقاييس.
ما يثير الاهتمام أن معظم الدول الآسيوية والأفريقية وحتى دول أميركا اللاتينية، لم تنضمّ إلى الحصار ضد روسيا. فضلاً عن ذلك، بات التعبير عن عدم الولاء لواشنطن أكثر وضوحاً وجرأةً. ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، يرفض زيادة إنتاج النفط، ويرفض طلبات البيت الأبيض لإجراء مفاوضات، ويعلن أنه لا يهتم برأي جو بايدن. رئيس وزراء باكستان، عمران خان، يجيب على نداء السفراء الغربيين له للتنديد بـ»الغزو» الروسي لأوكرانيا بـ»(أننا) لسنا عبيداً عندكم». من وجهة نظر السياسيين الأميركيين، فإن زعماء تركيا والهند والإمارات لا يقلّون «وقاحة». في الوقت نفسه، يعترف الأميركيون أنفسهم، بمرارة، أنهم لم يعودوا قادرين على التحدّث مع الشركاء «بروحية أيام بوش الابن».
تتكشّف أمام أعيننا، في الوقت الحالي، مرحلة جديدة في تاريخ أوروبا والعالم. مرحلةٌ يكمن جوهرها في انهيار عالم أحادي القطب ونظام العلاقات الدولية القائم على حقّ الأقوى، أي الولايات المتحدة، في تدمير الدول الأخرى من أجل منع أدنى احتمال لديها للتحوّل والتوجّه إلى مراكز قوى بديلة. سعت الولايات المتحدة خلف هذه الأهداف في يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا. هذا هو بالضبط ما كانت جهود الغرب تهدف إليه من وراء جرّ أوكرانيا إلى فلك نفوذها. روسيا تتحدّى اليوم هذا النظام علناً من خلال إنشاء عالم متعدّد الأقطاب لم يكن موجوداً من قبل.
إذا افتقرت أوروبا والولايات المتحدة للنضج للتحرّك في هذا الاتجاه، سيتعيّن على بقية مراكز القوى رسْم تصاميم المستقبل العالمي من دونهما. يجب استبدال العولمة الليبرالية البالية التي استنفدت ذاتها، بنظام عالمي عادل ومستقرّ جديد، يتم إنشاؤه وفقاً للظروف التي تضمن تعايش الدول والتجمعات الإقليمية مع الحفاظ على حقّ كل منها في التنمية الذاتية. أنا متأكد من أن كل القوى العاقلة في الدول الغربية التي تدرك المخاطر التي تواجه المجتمع الدولي والتي تهتم ببساطة بالحفاظ على وجودها الذاتي، سوف تنضم بشكل متزايد إلى هذه العملية.
* مدير الاستخبارات الخارجية الروسية (عن مجلة الدفاع الوطني الروسية)