حرب «الجنود الضائعين».. الغرب ــ إيران: استراتيجية توتر

حرب «الجنود الضائعين».. الغرب ــ إيران: استراتيجية توتر

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٨ أكتوبر ٢٠٢٢

«استراتيجية توتر» تُعتمد اليوم ضدّ إيران. مراجعة تطوّر الأحداث في هذا البلد، منذ اندلاع موجة الاحتجاجات قبل حوالي 40 يوماً، تُظهر أن المنهجية نفسها التي اتّبعتها الاستخبارات الأميركية في عملياتها الخاصة منذ أواخر ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، تطبَّق اليوم حيال طهران. استُخدم هذا المفهوم، أي «استراتيجية التوتر»، للمرّة الأولى في إيطاليا في تلك الحقبة، لوصف سلسلة هجمات عشوائية دامية نفّذتها مجموعات يمينية متطرّفة، اتّضح بعد حوالي العقدَين أنها تمّت بتوجيه وإشراف هذه الاستخبارات. كان الهدف آنذاك إضعاف «الحزب الشيوعي الإيطالي» الذي تحوّل إلى قوّة سياسية رئيسة، ومنعه من الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات، وحيداً أو من خلال التحالف مع أحزاب أخرى، عبر زعزعة الاستقرار وخلْق مناخ من الذعر وانعدام الأمن، يدفع الإيطاليين إلى الالتفاف حول العناصر الأكثر يمينية في النُخبة السياسية. الاستراتيجية نفسها جرى تطبيقها في تشيلي ضدّ نظام سيلفادور أليندي الوطني، عبر دخول الاستخبارات المركزية على خطّ الاحتجاجات الاجتماعية، والإيعاز إليها بتنظيم إضرابات تشلّ الاقتصاد وحركة النقل، وتهيّئ الظروف المناسبة للانقلاب العسكري الذي وقع في ما بعد.
استغلال التناقضات الاجتماعية والسياسية الداخلية في الدول المستهدَفة، وتأجيجها وتوظيفها لخدمة الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة، هو من بين المهام الرئيسة لوكالة أمنية أخطبوطية ما زالت أداة مركزية للإمبراطورية المنحدرة. هي لم تتورّع، في ليبيا وسوريا مثلاً، عن نسج «علاقات عمل»، أو تخادم، مع بعض أعداء الأمس، أي بعض أوساط الجماعات السلفية «الجهادية»، لمحاربة مَن صُنّف عدواً رئيساً آنذاك، أي نظامَي البلدَين وحلفائهما. هذا هو العالم الواقعي، الذي لا يشبه بتاتاً العالم الوردي المتخيّل من قِبل الذين يركّزون في تحليلاتهم للأحداث التي تعصف بمنطقتنا على العوامل الداخلية حصراً، ويقلّلون من شأن التدخّلات الخارجية، إنْ أقرّوا بوجودها أصلاً.
تتعرّض إيران، منذ سنوات طويلة، لحرب هجينة يشنّها عليها تحالف غربي - إسرائيلي، بمشاركة أطراف خليجية، بغية إضعافها وزعزعة استقرارها، ويلجأ لأجل ذلك إلى جميع الوسائل السياسية والاقتصادية والأمنية - العسكرية والإعلامية والسيبرانية. العديد من المحلّلين الأميركيين، كالمجموعة التي نشرت تقريراً على موقع «معهد دراسات الحرب» في الـ10 من الشهر الحالي، يرون أن موجة الاحتجاجات التي تشهدها إيران، توفّر فرصة لاستقطاب الحركات الانفصالية في كردستان وسيستان - بلوشستان، لأعداد كبيرة من الأنصار في أوساط المحتجّين، وتصعيد عملياتها ضدّ الجمهورية الإسلامية. وقد سارعت شبكة «سي أن أن»، في الـ19 من الشهر الجاري، إلى إعداد تقرير عن التحاق شابات كرديات من إيران بالمجموعات الانفصالية المسلّحة المتمركزة في كردستان العراق للقتال في صفوفها. ويأتي الهجوم على مزار «شاه شراغ» في مدينة شيراز، الذي تبنّاه «داعش»، في سياق تراجُع الاحتجاجات «السلمية»، وتزايُد العمليات المسلّحة التي تشنّها المجموعات المسلّحة في أطراف البلاد.
يتميّز هجوم «داعش» الأخير، عن غيره من الهجمات، بعشوائيّته، أي باستهدافه زوّار المقام وخدمته، ودمويّته. سيسارع الكثيرون من المؤيّدين للاحتجاجات السلمية إلى القول إن مِثل هذه الأعمال لا تخدم قضية المتظاهرين المطالبين بتغيير النظام. سمعنا كلاماً مشابهاً عند انطلاق التظاهرات في سوريا، بل واتهامات للنظام بالوقوف خلْف الهجمات المسلّحة الأولى ضدّ قوّاته! اتّضحت في ما بعد سخافة مِثل هذه الاتهامات، عندما ظهرت قوّة الجماعات السلفية المسلّحة، واعتراف قادتها بالإعداد للمواجهة مع النظام منذ زمن بعيد. الأطراف الدولية والإقليمية التي رعت المجموعات المسلّحة، كان مشروعها الفعلي إحراق سوريا، وليس دعم «تغيير ديموقراطي سلمي» كما اعتقد المغفّلون المفيدون. الأمر نفسه ينطبق على إيران. التحالف الغربي - الإسرائيلي يريد تدمير هذا البلد لكوْنه الحلقة المركزية في محور المقاومة. هجوم «داعش» الأخير، وظيفته إشعار المواطنين الإيرانيين بتراجع قدرة الدولة على حفظ الأمن، وانحسار سيطرتها على الأوضاع الداخلية. هي «استراتيجية التوتّر» بنسختها الإيرانية.
من الممكن طرح أسئلة كثيرة عن «داعش» اليوم، والأصحّ عن «جنوده الضائعين». كيف تمكّنوا من شنّ هجمات في إيران؟ كيف ظهر هذا التنظيم في أفغانستان في السنوات الأخيرة وبات لاعباً يُحسب له حساب في ذلك البلد؟ مسؤولون في حركة «طالبان» اتّهموا الولايات المتحدة، في مناسبات عدّة، بتسهيل دخول عناصر تابعة له إلى أفغانستان خلال الاحتلال الأميركي. كان من اللافت أن تقوم الحركة بإعدام زعيم «داعش» في جنوب آسيا، أبو عمر الخرساني، مباشرة بعد سيطرتها على كابول في الـ15 من آب 2021، بعد أن كان قد اعتُقل من قِبل الحكومة الأفغانية السابقة قبل عام من ذلك، وبقي حيّاً في سجونها. عمليات التنظيم في أفغانستان، المُوجّهة ضدّ «طالبان» وضدّ المواطنين الشيعة، وأيضاً إعلاناته المتكرّرة عن نيّته العمل ضدّ روسيا والصين، تُظهر «تقاطعاً» جلياً مع الأجندة الأميركية. مَن يعرف تاريخ الاستخبارات المركزية و«براغماتيتها»، لن يستغرب لجوءها إلى استعمال «جنود ضائعين» في إطار «استراتيجية التوتر»، وتعميم الخراب في البلدان المعادية، التي طالما اعتمدتها لإنفاذ مشاريع الهيمنة الإمبراطورية.