حرب «الغرب الجماعي» على الجبهة الأيديولوجية: إيران لا تتنازل

حرب «الغرب الجماعي» على الجبهة الأيديولوجية: إيران لا تتنازل

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٢

الهجوم المضاد الذي شَرَع به «الغرب الجماعي»، وهي تسمية بات يعتمدها عدد من أبرز منظّري التحالف الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، ضدّ القوى غير الغربية الصاعدة التي لا تلتزم بنموذج «ديموقراطية السوق»، يشهد، في الآونة الأخيرة، تصعيداً كبيراً على الجبهة الأيديولوجية، يفوق في حدّته ذلك الجاري على جبهات عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية. وإذا كان المسعى المستميت لوقف مسار الانحدار التاريخي للهيمنة الغربية يشترط اتّباع سياسات عدوانيّة ضدّ الخصوم الاستراتيجيين تُتَرجم حروباً بالوكالة متعدّدة الأشكال، فإنه يتطلّب أيضاً محاولة لاكتساب شرعيّة داخلية وخارجية لهذا المسعى عبر تقديمه على أنه دفاع عن الديموقراطية على نطاق عالمي، في مواجهة أعدائها. في الواقع، تعاني الرأسماليات البرلمانية، أو «ديموقراطيات السوق»، أزمة مشروعية عميقة على المستويات الداخلية، مرتبطة بتعاظم الانقسامات والفوارق الاجتماعية، ناجمة بمعظمها عن خيار العولمة النيوليبرالية، وعن التراجع المستمرّ في قدرتها على السيطرة العسكرية والسياسية على بقية المعمورة.
إذا استعدنا لِلَحظةٍ مشهد الهروب الأميركي المذلّ من أفغانستان، في آب 2021، وما تَبِعه من تحليلات صادرة عن الكثير من المسؤولين السابقين والمفكّرين الغربيين عن نهاية هيمنة الغرب، وتفكُّك الإجماع الداخلي في داخل بلدانه، وفي ما بينها، حول السياسات الإمبريالية، تصبح وظيفة الحملة الأيديولوجية - الإعلامية الراهنة ضدّ كلّ من إيران وروسيا والصين، وغيرها من الدول المستقلّة في جنوب العالم، غاية في الوضوح. لم تكن مصادفة أن يُنظّم جو بايدن، وهو صاحب شعار «أميركا عائدة» أيّام حملته الانتخابية، بضعة أشهر بعد وصوله إلى السلطة، «قمّة من أجل الديموقراطية»، شارك فيها ممثّلون عن حوالي 100 دولة ومنظّمة غير حكومية وشركة، خُصّصت للترويج لسرديّة جديدة تقسم العالم إلى «فسطاطَين»: «الديموقراطية» من جهة، وأعدائها من جهة أخرى. السبيل الأقصر، من منظور بايدن ونظرائه من النخب الغربية الحاكمة، لإعادة بناء الإجماعات الداخلية، وتعزيز اللُّحمة في ما بينهم، هو تبنّي مثل هذه السردية ليستطيعوا المُضيّ في صراعهم مع الأعداء. من خلال الحروب، سيطر الغرب على العالم، ورَسَم خرائطه، وتحكّم بمصائر القسم الأعظم من شعوبه وثرواتهم. وإذا كانت «المهمّة الحضارية» هي المسوّغ لتوسُّعه الاستعماري في بداياته، فإن «الدفاع عن الديموقراطية» هو شعار مرحلة الانحدار الحالية، بهدف حشْد القوى والموارد للانقضاض على الأعداء ووقْفه.
تضمّن الخطاب الأخير لمرشد الجمهورية الإسلامية في إيران، السيد علي الخامنئي، لمناسبة أسبوع التعبئة، رسالةً واضحة للولايات المتحدة والقوى الغربية، مفادها بأن المجابهة الأساسية معها لا مع أدواتها الداخلية المتورّطة في أعمال الشغب أو الهجمات الإرهابية، وأن ساحات هذه المجابهة تمتدّ لتشمل لبنان وفلسطين، وبلدان المنطقة الأخرى. وهو أضاف إن «البعض يقول: لتحلّ المشكلة مع أميركا. كيف نحلّ المشكلة مع أميركا؟ هل بالمفاوضات وأخذ الالتزامات منها؟ عام 1980، حرّرنا الرهائن، فهل احترمت أميركا التزاماتها؟ هل رَفعت العقوبات وحرّرت أموالنا المجمَّدة؟ أميركا لا تحترم التزاماتها، والتفاوض معها لا يحلّ المشكلة، بل ما يريدونه فقط هو أن نقدّم لهم التنازلات، وهم لا يكتفون بتنازل واحد بل مطالبهم ستتوالى». السبب المركزي لعداء الغرب لإيران هو توجّهاتها الاستقلالية المتأتّية عن طبيعة نظامها السياسي، ورفضه التسليم بتفوّق «النموذج الغربي». التمسّك بالخصوصيّة الحضارية الإسلامية وعدم الإقرار بالصلاحية العالمية للمرجعية الغربية، يفسّر شراسة حملة الكراهية المستشرية راهناً ضدّ إيران في بلدان الغرب، ومساهمة عدد كبير من المثقّفين، بِمَن فيهم أولئك المحسوبون تقليديّاً أنصاراً للشعوب المظلومة فيها.
لا تتقبّل ديموقراطيات السوق ونُخبها السياسية والثقافية فكرة وجود نموذج سياسي مختلف عنها وقابل للحياة. الهستيريا الغربية ضدّ الصين ناجمة أساساً عن النموّ الهائل لقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وما تمثّله من تحدٍّ لنفوذ الغرب في أنحاء العالم، غير أن نجاح نموذجها السياسي والاقتصادي، «الاشتراكية بخصائص صينية»، وفقاً لرئيسها شي جين بينغ، هو بذاته دافع إضافي للكراهية الغربية لها. هي تستغلّ أيّ اضطرابات أو احتجاجات اجتماعية فيها، تشهد مدن الغرب العشرات منها أسبوعيّاً في السنوات الأخيرة، للاستنتاج بأن النموذج الصيني في طريقه إلى الانهيار! لا يعني هذا الكلام أن الغرب غير مستعدّ للقبول بـ«التعاون» مع أنظمة سياسية غير ديموقراطية، ولا تعتمد نموذجه، طالما أنها متحالفة أو تابعة له على المستوى الاستراتيجي. علاقاته بأنظمة الخليج خير مثال على ذلك. لكن ممّا لا شكّ فيه هو أن تمايز الدول المستقلّة عن النموذج الغربي عامل عداء صافٍ حيالها. وبطبيعة الحال، هو يستغلّ مثل هذا التمايز لتغليف حروب إدامة الهيمنة بغلاف أيديولوجيا الديموقراطية وحقوق الإنسان، وإعطائها طابعاً عالمياً عابراً للخطّ الفاصل بينه وبين الآخرين، ومحاولة استقطاب دول غير غربية أو قطاعات من مجتمعاتها إلى معسكره عبر مثل هذه الشعارات الجوفاء.