ألمانيا بِرداء «العالم الثالث»: «مؤامرة انقلابيّة» للإلهاء

ألمانيا بِرداء «العالم الثالث»: «مؤامرة انقلابيّة» للإلهاء

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٩ ديسمبر ٢٠٢٢

 استيقظ العالم، أوّل من أمس، على أنباء إفشال السلطات الألمانية «مؤامرة انقلابيّة» قِيل إن وراءها متطرّفين يمينيين، يقودهم سليل عائلة نبيلة، كانوا يخطّطون لاقتحام البرلمان وإطاحة الحكومة. لكن المعطيات المتوافرة تشير إلى مناورة يجريها النظام الألماني، تحضيراً للتعامل مع حالة الغضب المتصاعد بين المواطنين، نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة التي دفعتهم إليها حكومتهم، بفعل خضوعها للإملاءات الأميركية وانخراطها في الحرب الاقتصادية ضدّ روسيا. مزاج الغضب الشعبي هذا، ليس مقتصراً على ألمانيا، بل يمتدّ إلى أرجاء أوروبا، بما فيها بريطانيا التي تتهيّأ لفرْض تشريعات تجرّم الإضرابات، وتمنْح قوات الأمن صلاحيات واسعة للتعامل معها
ليست ألمانيا بمعزل عن محاولات الانقلاب اليمينية المتطرّفة، إذ اهتزّت جمهورية فايمار الناشئة على خلفية محاولات انقلابية فاشلة في عام 1920، وكذلك في عام 1923، لكن ذلك لا يشبه أبداً محاولة الانقلاب التي أَعلنت سلطات برلين إحباطها، أوّل من أمس، والتي وصفتها بـ«أكبر مؤامرة يمينية متطرّفة في تاريخ الجمهورية الفيدرالية»، البالغ 73 عاماً. ويبدو أن العديد من المعتقلين الـ25 بحجّة التورّط في التخطيط للاستيلاء على السلطة وشَنّ هجوم مسلّح على مقر «البوندستاغ» (البرلمان الاتحادي في برلين)، من كبار السنّ والمتقاعدين الذين يحنّون إلى ماضٍ كانت فيه ألمانيا دولة لا تخضع للولايات المتحدة، فَيَلتقون ويتواصلون لمناقشة الأوضاع في ما بينهم لتزجية الوقت، وللتحسّر وهجاء «الدولة العميقة»، ونَسْج نظريات المؤامرة. ليس هؤلاء بأيّ مقياس ثوريّين محترفين، ولا يمتلكون دعماً شعبياً، ولا تأثيراً داخل الجيش أو المؤسسات الأمنية الفاعلة، ولا قدرة على السيطرة على وسائل الإعلام أو أيٍّ من مفاصل النظام الألماني؛ فيما قائدهم، هاينريش الثالث عشر، هو سليل إحدى العائلات النبيلة من ولاية تورينغن في شرق ألمانيا، معروف بأنه رجل مضطرب في السبعينيات من عمره، يعاني مشكلات في الصحة النفسية.
لكن الأهمّ من ذلك كلّه، أن ألمانيا تخضع عمليّاً للاحتلال الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي مقرّ لخمس من الفِرَق السبع للجيش الأميركي في أوروبا (ثمّة فرقة في بلجيكا وأخرى في إيطاليا). ويبلغ عديد العسكريين الأميركيين ومَن في حُكْمهم، أكثر من 50 ألفاً موزَّعين على 21 قاعدة عسكرية عبر البرّ الألماني كلّه، كما تُعدّ ألمانيا ركيزة عمليات «حلف شمال الأطلسي» في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، وتخزّن فيها الولايات المتحدة ما لا يقلّ عن 20 رأساً نووية، ناهيك عن هيمنة الاستخبارات المركزية الألمانية الخانقة على نُخبة البلاد وإعلامها وجامعاتها ومؤسّسات الدولة العسكرية والأمنية والسيادية. لهذا كله، لا يمكن لعاقل أن يصدّق حكاية انقلاب لا يُنسِّق قادته مع الاستخبارات الأميركية، أو على الأقلّ لا يتحوّطون لكيفيّة التعاطي مع الجيش الأميركي على الأرض، بل، وبحسب مزاعم السلطات، فهم اتصلوا بمسؤولين روس للحصول على دعمهم - من دون وجود أيّ إثبات على ذلك أو إشارات إلى أن موسكو قد استجابت لهم -. ومن السُخْف الاعتداد بالرواية الرسمية لحكومة برلين عمّا جرى، لا سيما لناحية مشاركة 3000 مجنّد في عمليّة الاعتقال، وهو عدد أقرب إلى المشاركة في مناورة أمنية تدريبية شملت 130 موقعاً في 11 ولاية من أصل 16، لكنها أسفرت عن اعتقال 23 عجوزاً فقط من بين 2100 مراقَبين ومعروفين للسلطات بدقّة، وكان يمكن استدعاؤهم بهدوء لمراجعة مخافر الشرطة (اعتُقل شخصان على صلة بالمجموعة أيضاً خارج البلاد، بناء على إشارة الأجهزة الألمانية، أحدهما في النمسا والآخر في إيطاليا، علماً أنّ الأخير في الـ64 من العمر، وكان خدم في الجيش الألماني لكنه متقاعد منذ بعض الوقت).
وعلى رغم الوجود الدائم لمتطرّفين نازيين في ألمانيا - يُقدّر عددهم بحوالى 20 ألفاً -، إلّا أن هؤلاء لا يشكّلون خطراً على النظام الألماني، فيما تنسّق الاستخبارات الأميركية مع رفاقهم في أوكرانيا وكرواتيا وإيطاليا وتبقيهم تحت السيطرة. والحقيقة أن نظام برلين الحالي حيّ وبصحّة ممتازة، وهو واحد من أقوى الأنظمة في العالم الغربي، ويمتلك - من دون أدنى شكّ - أقوى تركيبة استخبارية وأمنيّة في البلاد منذ ولادة الدولة القومية الحديثة أيّام بسمارك في القرن التاسع عشر. والأغلب أن ادعاء برلين إحباط هذه المحاولة الانقلابية المزعومة، يأتي في سياق قلق متزايد من قِبَل النخب الحاكمة في أوروبا تجاه تململ شعبيّ محتمل نتيجة الأوضاع المعيشيّة الصعبة التي تعيشها الطبقات العاملة والفقراء، وتبدو محاولة لاستباق الأحداث بإرسال تحذيرات صريحة وضمنيّة حول عزم السلطات التعامل بحزْم مع أيّ اضطرابات من هذا القبيل.
وتواجه الحكومات الأوروبية مزاجاً من السخط الشعبي المتصاعد نتيجة تراجع الدخول الحقيقية للمواطنين، والارتفاع الفلكي في قيمة فواتير الخدمات العامة، وحالة الركود الاقتصادي الذي ظهرت معالمه الأولى بالفعل، ويُرشّح أن يتفاقم خلال الأشهر والسنوات المقبلة. على أن النّخبة الحاكمة في بريطانيا اختارت، لمواجهة هذا المزاج، مقاربة أقلّ دراميّة من حكاية «الانقلاب»، وهي تحضير الأجواء لتمرير تشريعات من شأنها تجريم الإضرابات العمالية في المملكة، إضافة إلى منْح قوات الشرطة صلاحيّات أوسع للتعامل مع انتفاضات الشوارع. ونقلت الصحف عن رئيس الوزراء، ريشي سوناك، قوله في جلسة لمجلس العموم، إنه إذا «استمرّ قادة النقابات العماليّة في أن يكونوا غير عقلانيين، فمن واجبي اتخاذ إجراءات لحماية أرواح وسبل عيش الجمهور البريطاني».
وتواجه بريطانيا، هذا الشهر، أوسع موجة إضرابات عماليّة منذ 1989، إذ إلى جوار عمّال القطارات الذين ينّفذون انقطاعات متفرقة عن العمل ويرتقب أن يصعّدوا خلال الأسابيع المقبلة، فإن قوّة أمن الحدود التي توفّر خدمات تدقيق جوازات السفر في المطارات والموانئ، ستنفّذ، بدورها، إضراباً خلال موسم العطلات، ما قد يتسبّب بفوضى عارمة في ستّ من المطارات الرئيسة خلال وقت الذروة، بما فيها مطارا هيثرو وغاتويك في العاصمة لندن. وقال مصدر في وزارة الداخلية، إن الإضرابات قد تكون «مدمّرة بشكل خطير... على الناس أن يتجنّبوا السفر والتنقّل خلال هذه الفترة إذا كان بإمكانهم ذلك». وسينضمّ إلى عمال القطارات وقوّة الحدود أيضاً، عمال البريد وموظّفو الهيئة الصحية القومية - التي تدير مستشفيات وعيادات الصحة الأساسيّة في البلاد وخدمات الإسعاف -، وأيضاً الممرضات - للمرة الأولى في تاريخ نقابتهن العريقة - كما موظّفو الخدمة المدنية، بدءاً من مكتب مجلس الوزراء إلى المتحف البريطاني ووكالة الفضاء البريطانية ومكتب الإحصاءات الوطنية وغيرها من الأجهزة الحكوميّة والوكالات العامة، وربّما قطاع المعلّمين في المدارس وأساتذة الجامعات. وقال نقابيون يديرون إضراب عمّال القطارات، إن حكومة لندن «أَفشلت» اتفاقاً كان ممكناً بين العمّال والشركات، فيما قال موظف رفيع في الحكومة، إن الأخيرة ستحافظ على خطّ متشدّد في شأن مفاوضات الأجور، محذّراً من أن «التسرّع في تلبية مطالب النقابات سيكلّف مليارات الجنيهات، ويديم التضخّم لفترة أطول». وتخشى الحكومة من ردّ فعل النقابات العمالية إن هي شرّعت قوانين لتجريم الإضرابات، ولذلك فهي تريد صلاحيات إضافية للأجهزة الأمنية لقمع أيّ احتجاجات واسعة من شأنها أن تشلّ البلاد برمّتها، وأن تشرّع الباب للفوضى.
ويرى محلّلون أن توسّع الحراك الشعبي في أيّ من الدول الأوروبية الكبرى، وتعرّض أيّ من أنظمتها السياسيّة للاهتزاز في هذا الوقت، سيكون بمثابة شرارة تنتقل في هشيم قابل للاشتعال عبر القارة برمّتها، وسيكسر التحالف القائم ضدّ روسيا. ولذلك، فإن الولايات المتحدة تراقب الأمور عن كثب - لا سيّما في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا -، ولن تسمح بتوليد تلك الشرارة، وستدعم، من دون تردّد، وبأشكال متفاوتة، الأنظمة القائمة في مواجهة شعوبها بغض النظر عن مسائل حقوق الإنسان أو الديموقراطية أو حرية التعبير.