ليست (إلى الآن) أزمة وجودية: إسرائيل... عوامل الاحتراب وحدوده

ليست (إلى الآن) أزمة وجودية: إسرائيل... عوامل الاحتراب وحدوده

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢٤ يناير ٢٠٢٣

تمرّ إسرائيل بأزمة سياسية - اجتماعية يختلف المراقبون في توصيفها وتقدير تداعياتها. ما يَرِد من إسرائيل من مواقف وتعليقات وتحليلات، يوحي لوهلة بأن الكيان بات على شفا الانهيار، وبأن الانقسام الداخلي وصل إلى نقطة اللاعودة، بل وأيضاً إلى حافّة حرب أهلية لن تسمح للدولة العبرية بتجاوُز عقدها الثامن. من الواضح أن هذه الواردات تنطوي على قدْر من المبالغة، التي يعزّزها تحذير المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم من عُمق الانقسام، والتنبيهات الإعلامية الرائجة إلى تحوّل إسرائيل إلى دولة بوليسية، واستطلاعات الرأي التي تُظهر الإسرائيليين فاقدين الثقة بكيانهم وبمؤسّساته، وأيضاً الحديث عن الهجرة المعاكسة، وفقدان الأمن والبوصلة الاجتماعية، والتشرذم الأهلي... إلخ. الواقع أن الأزمة الداخلية الإسرائيلية حادّة جدّاً، ومن شأنها الدفع نحو تعميق الخلافات بين مكوّنات الكيان، لكن هل تُعدّ بذاتها مؤشّراً إلى خطر وجودي عليه؟ الإجابة بنعم جازمة تُعدّ مصادرة على المطلوب، ومبالغة في غير مكانها، لكن النفي الجازم أيضاً يُعدّ بدوره مبالغة نقيضة للواقع.
 
ليس الانقسام الإسرائيلي جديداً، لكن أطرافه التزمت حتى الأمس القريب بقواعد اشتباك سمحت للجميع بإدارة التباينات والخلافات، بما يؤدّي إلى منعها من التحوّل إلى أفعال عدائية. كما أن الجميع احتكموا إلى آليّات قانونية وحدود ارتضوها لأنفسهم وارتدعوا عن تجاوُزها، وإنْ أظْهر كلّ منهم تمسّكاً بالسلطة. لكن هذا الانضباط بدأ بالتزعزع أخيراً، دافعاً الصراعات الكامنة تحت الرماد إلى سطح الاهتمامات والتغطيات. في هذا الإطار، تَبرز الخلافات على الهويّة، سواءً بين اليهود والفلسطينيين من حمَلة الجنسية الإسرائيلية وإنْ كان عدد هؤلاء الأخيرين لا يتجاوز خُمس التعداد السكّاني للكيان، أو حتى بين اليهود أنفسهم من «حريديم» و«متديّنين صهاينة» وعلمانيين وتقليديين وسكّان مدن وأرياف وغيرها الكثير من التوصيفات، أو حتى داخل الفئة اليهودية الواحدة نفسها.
ad
 
ذاك ما يمثّل الأساس الأوّل للانقسام الأحدث، فيما الأساس الثاني مرتبط بمصلحة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي يتطلّع إلى التملّص من مُحاكمته على خلفيّة تُهم فساد ورُشى، عبر تغيير النظام القضائي وإضعافه، وجعْله تحت سيطرة مَن يُمسك بالمؤسّسة السياسية. وهو تَوجّه يتلاقى مع توجّهات الفاشيين والمتديّنين في ائتلافه، والذين يطمحون بدورهم إلى الحدّ من سلطة القضاء لتمرير أجنداتهم الأيديولوجية، ولو تَعارضت مع «مبادئ حقوق الإنسان والمساواة والديموقراطية» المدّعاة، الأمر الذي كانت «المحكمة العليا» تقف عائقاً في وجهه، عبر إبطالها القوانين التي تَدفع نحوه. كذلك، يرغب هؤلاء، في ما يجلي إفراطهم في تقدير قدرتهم الذاتية على التغيير، في تبديل طابع الدولة وهويّتها لتُصبح قائمة على أثافيّ تلمودية، مع تعزيز خصوصية «الحريديم» على حساب الأكثرية اليهودية بما يعزّز حالة الانفصال الاجتماعي لديهم، فضلاً عن الإضرار بالعقد الجماعي في ما بين اليهود وتعزيز الانقسامات الضاربة في صفوفهم. هكذا، تَقاطعت شهيّات نتنياهو وشركائه في ظرفٍ عانى فيه خصومه فشلاً قيادياً، أدّى إلى فوز اليمين والفاشية في انتخابات مشكوك في نتيجتها التمثيلية الفعلية، لتجيء النتيجة في صورة تصويب على الدولة وطريقة الحوكمة فيها، من بوّابة ما يسميها أطراف الائتلاف الحاكم «الإصلاحات» في القضاء.
في المقابل، مروحة المتضرّرين من تلك التوجّهات كبيرة إلى الحدّ الذي يمكنه تأليب الشارع ضدّ الحكومة، وهي تشمل: أحزاب المعارضة، المؤسّسة الأمنية كما العسكرية، المؤسّسة السياسية بمعنى الوجود العميق لها، المؤسّسة القضائية، الإعلام على اختلاف مستوياته، والعلمانيين من حزب «الليكود» الذين يخشون على علمانيّتهم من شركائهم، فضلاً عن نتنياهو نفسه، الذي وإنْ كان يريد التملّص من محاكمته، إلّا أنه غير معنيّ أيضاً بهدف جعْل إسرائيل دولة تلمودية. ومن هنا، يواجه الائتلاف مقاومة كبيرة تشير إلى أن التغيير القضائي وسِواه لن يكون سهلاً، أو في الحدّ الأدنى ستكون تداعياته كافية بذاتها لإبطاله بسهولة مستقبلاً، أو حتى منْعه من أساسه. وعلى رغم أن هذه المقاومة قد تتّخذ أشكالاً عنفية بهذا المستوى أو ذاك، وأن تدخّل مؤسّسات فرْض القانون قد يصل إلى حدود استخدام القوّة، لكن يَصعب تصوّر وصول إسرائيل إلى مرحلة الاحتراب الداخلي، فيما تعدّ المبالغة في التحذير من هذه السيناريوات وغيرها - من مِثل تحوّل الدولة العبرية إلى كوريا شمالية جديدة أو إلى حُكم الفرد والديكتاتورية - جزءاً لا يتجزّأ من عدّة الشغل.
ad
 
لا يعني ما تَقدّم أن إسرائيل لا تعيش تشرذماً، وأن هذا التشرذم قد لا يتّسع ويتعمّق، بل يمكن القول إن الخطر يتربّص بالوضع القائم وقواعد الاشتباك بين الفئات اليهودية التي كانت استطاعت إلى وقت قريب إدارة خلافاتها. لكن هل يقود ذلك إلى الاستنتاج أن الاحتراب البَيني محتوم؟ يظلّ ثمة مكان لتقدير الأسوأ، المتمثّل في تجاوُز الأطراف اليهودية حدودها، وانزلاقها إلى غِمار العنف. لكن حتى الآن، تسير الأزمة على حدّ رفيع، ما بين شهيّة الائتلاف الفاشي لفرض إرادته، والممانعة الواسعة والصلبة في وجهه.