نتنياهو ينجو من المقصلة: «الانقلاب» لا يرتدع

نتنياهو ينجو من المقصلة: «الانقلاب» لا يرتدع

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٤ مارس ٢٠٢٣

تتزايد، يوماً بعد يوم، التوتّرات على خطّ واشنطن - تل أبيب، مُنذرةً بإمكانية الوصول إلى أزمة شبيهة بتلك التي أعقبت حرب عام 1973، عندما أرادت إسرائيل «التغنّج» على مقترحات هنري كيسنجر للتسوية مع العرب. وعلى رغم أن المعطيات الراهنة تنبئ بأن الطرفَين لا يزالان قادرَين على ضبْط تبايناتهما، إلّا أن خروج الانتقادات الأميركية إلى العلن بشي بأن سياسة «النُصح السرّي» لم تؤتِ أُكلها، وبأن الولايات المتحدة باتت تستشعر حاجة ماسّة إلى تدخّل أكثر فظاظة من أجل لجْم المسار الإسرائيلي الحالي. تدخّلٌ يستحثّه خصوصاً التعنّت الذي يُظهره التيّار الفاشي السائد في تل أبيب حالياً، وإصراره على الإمساك بمفاصل السلطة كافة، على رغم ما سيستتبعه ذلك من تهديدات لمصالح الحليف الأميركي
في ساعة مبكرة من فجر أمس، سارعت الهيئة العامّة لـ«الكنيست» إلى التصويت بالقراءتَين الثانية والثالثة على مشروع «قانون أساس: الحكومة»، والذي ينصّ على «منْع عزْل رئيس وزراء من منصبه، والإعلان عن تعذّر قيامه بمهامه». على المقلب الآخر، استمرّت «لجنة الدستور والقانون»، لليوم الثالث على التوالي، في بحْث الصيغة المخفَّفة من قانون تعيين القضاة المثير للجدل، مناقِشةً إلى الآن آلاف التحفّظات، بينما من المنتظَر مناقشة آلاف أخرى قدّمها المعسكر المُعارض، على أن تُقِرّ اللجنة المشروع قُبيل انتهاء الدورة الشتوية لـ«الكنيست»، تمهيداً للتصويت عليه بالقراءات المختلفة. هكذا، يسرّع الائتلاف الحكومي الفاشي مسار بسْط السيطرة على مؤسّسات «الدولة» من طريق «الانقلاب القضائي»، غير عابئ بتوسّع قُطر الانشقاق العَمودي الحاصل في المجتمع الإسرائيلي، والذي تجلّى آخر مظاهره في خروج عشرات الآلاف من الإسرائيليين، من شمال فلسطين المحتلّة إلى جنوبها، في تظاهرات شهدت إغلاق طُرق وتقاطعات رئيسة وإحراق دواليب، ومناوشات أفضت إلى اعتقالات وإصابات، وذلك على وقْع التصويت على القانون الهادف إلى تحصين رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، المتَّهم بقصايا فساد وخيانة للأمانة.
على أن «حفلة» منْع عزل نتنياهو، والذي أيّدته أغلبية عادية شملت 61 عضواً في مقابل مُعارضته من قِبَل 47، لم تخلُ من خلافات داخل «البيت الواحد»؛ إذ تَغيّب عضوا «الكنيست» من حزب «الليكود» الحاكم، دافيد بيتان ودافيد إمسالم، عن الجلسة، فضلاً عن موشي أبو طبول من حزب «شاس». وعلى رغم أن الإذاعة الإسرائيلية الرسمية «كان» ذكرت أن تَغيّب الأعضاء الثلاثة عن التصويت «لم يكن بسبب الخلافات»، إلّا أن بيتان نفسه كان أعلن، بصراحة، اعتراضه على المسار الذي يقوده حزبه، متسائلاً: «لماذا علينا السيطرة على السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)؟»، قائلاً إنه سيصوّت لصالح قانون تعيين القضاة بصيغته المخفَّفة، مستدركاً بأن تصويته ذاك سيكون «للمرّة الأخيرة في حال لم تَجْر استشارته مرّة ثانية». وبموجب مشروع القانون الذي صودق عليه أخيراً، والذي كان قدّمه رئيس الائتلاف الحاكم، عضو «الكنيست» من «الليكود» أوفير كاتس، تُمنع المستشارة القضائية للحكومة من إعلان تعذُّر أداء رئيس الوزراء مهامّه، وتنحيته من منصبه، فيما يُحصر التعذّر بأسباب تتعلّق بالقدرة الجسدية أو النفسية، على أن يكون رئيس الحكومة هو نفسه مَن يعلن هذه الحالة، أو أن يؤكّدها مجلس الوزراء بغالبية 75% من أعضائه، وإذا ما عارض رئيس المجلس رأي الوزراء، يُنقل التصويت إلى الهيئة العامّة لـ«الكنيست» حيث يتطلّب إعلان «التعذّر» تأييد 90 عضواً. أمّا بالنسبة إلى المحكمة العليا، فنصّ القانون على أنها «لا يمكنها النظر في التماس يطالب بالإعلان عن التعذّر أو المصادقة عليه»، وهو ما عارضتْه المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف - ميارا، انطلاقاً من أن التعديل الجديد يمنع الرقابة القضائية لـ«العليا»، ويَحرمها من تقديم موقف قانوني في مسألة حيوية.
بموازاة تصاعُد مسار «الانقلاب»، تواصَل انتشار «وباء الرفض» في صفوف جنود وضباط الاحتياط من القوّات المختلفة في جيش الاحتلال
وبموازاة تصاعُد مسار «الانقلاب»، تواصَل انتشار «وباء الرفض» في صفوف جنود وضباط الاحتياط من القوّات المختلفة في جيش الاحتلال، فيما وصلت «العدوى» أيضاً إلى المجنّدين الجدد في الجيش للخدمة النظامية الإجبارية. وطبقاً لـ«القناة 12» الإسرائيلية، فإن نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت حضرا «يوم تجنيد الجنود الجدد للواء جولاني (أحد أهمّ ألوية النخبة)» في مكتب التجنيد في قاعدة «تل هشومير» العسكرية، حيث عَرض الأخير أمامهم تفاصيل مقلقة مفادها أن «امتثال جنود الاحتياط في تدريبات عسكرية تراجَع بعشرات النِّسب المئوية»، فيما «الامتثال للخدمة في المهمّات لم يتراجع». وعلى رغم أن عدد المرشّحين للانضمام إلى «جولاني» ارتفع «خمسة أضعاف عمّا هو مطلوب»، بحسب المكتب المُشار إليه، غير أن القناة نفسها ذكرت أن «أقوال المرشّحين للخدمة في هذا اللواء مغايرة، وقد تؤثّر على فوج المجنّدين في العام المقبل»، موضحةً أن هؤلاء «قالوا إنه في حال المصادقة على الانقلاب القضائي، فإن الأهالي سيعملون على منع تجنيد أولادهم في الوحدات القتالية»، منبّهةً إلى أن هذا التحذير من شأنه ألّا يؤثر فقط في المدى المنظور، وإنّما «من شأنه تغيير وجْه الجيش».
أمّا نتنياهو، الغارق في تهم الفساد، فتحدّث بحزم عن الخدمة العسكرية وأهمّيتها، انطلاقاً من الاحتجاج الآخذ في التوسّع في صفوف الاحتياط، قائلاً إنه «لن تكون لدينا دولة من دون جيش، ولن تكون لدينا دولة من دون جنود يتجنّدون للخدمة العسكرية»، مضيفاً في حديثه إلى المجنّدين الجدد: «أنتم تتجنّدون من أجل الدفاع عن التراث». وأتى خطاب نتنياهو بعد تحذير قادة قوّات الاحتياط في الحركة الاحتجاجية، مجدّداً، من «تفكّك الجيش»، بالنظر إلى أن «الآلاف سيمتنعون عن تأدية الخدمة العسكرية في حال المضيّ في تشريع الانقلاب القضائي». وفي بيان رسمي أصدروه، قال هؤلاء القادة: «نقترب من الخطّ الأحمر، وإذا ما تمّت المصادقة على التشريعات، سنتوقّف نحن وآلاف آخرون عن الخدمة (العسكرية)»، مطالبين غالانت بـ«ممارسة ضغوط من أجل وقْف التشريعات»، منبّهين إلى أن «الجيش يتفكّك أمام أعينكم فيما تجثمون بصمت منذ 11 أسبوعاً». من جهته، خاطب غالانت المجنّدين الجدد في قاعدة «تل هشومير» بالقول إن «الردّ الواضح على جميع الخلافات موجود هنا، في التجنيد للواء جولاني، عندما نرى أشخاصاً من جميع أنحاء البلاد يأتون إلى الخدمة القتالية. هنا، نحصل على شهادة المناعة الحقيقية لدولة إسرائيل في سلسلة الأجيال التي تنقل العصا من جيل إلى آخر».
ومع أن غالانت لم يسبق له أن أبدى معارضته للإصلاحات القضائية، إلّا أنه، انطلاقاً من حرصه على عدم تفكّك الجيش، طالب نتنياهو بوقف قطار التشريعات، والبدء بمحادثات توافقية مع المعكسر المعارض للتوصّل إلى تسوية. غير أن رئيس الوزراء لم يستجب لطلبه، متجاهلاً ما قدّمه من «معطيات مقلقه» حول الوضع في المؤسّسة العسكرية. وفي هذا السياق، رأت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن «غالانت يضع نفسه في الموقف التقليدي لوزراء الأمن، كممثّل للجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن على طاولة الحكومة»، مشيرةً إلى أنه لم يهدّد بالاستقالة - على رغم انتشار أنباء تفيد بذلك -، بل هو «يحاول تقديم نفسه على أنه ينصت أكثر من الآخرين لرسائل واشنطن وعواصم (غربية) أخرى، ويؤدّي دور العاقل والمسؤول في الحكومة التي تفتقد إلى العقلانية والمسؤولية بتشكيلتها الحالية»، ملمّحةً بكلامها إلى أن وزير الأمن لا يسعى بجدّية إلى منْع «الانقلاب القضائي».
بيبي "يتحرّر": التراجع غير وارد
وصلت إسرائيل، مساء أمس، إلى نقطة اللاعودة أخيراً. إذ حسم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الأمر، بإصراره الشديد على المضيّ قُدماً في "الانقلاب" القضائي، معلناً، في خطاب إلى الإسرائيليين، عزم ائتلافه «على تمرير الإصلاح القضائي الذي سيعيد التوازن الصحيح بين السلطات». وجاء هذا الخطاب في ظلّ استمرار غليان الشارع، حيث اجتاحت التظاهرات الكيان، واعتُقل على إثرها أكثر من مئة محتجّ، فيما أطلق أنصار الحكومة في «بني باراك» - معقل المتشددين - الألعاب النارية صوب المحتجّين، وأعطب آخرون إطارات أكثر من عشرين مركبة للمتظاهرين. أمّا وزير الأمن الداخلي السابق، عومر بار ليف، فوجد نفسه يتلقّى الضربات من عناصر الشرطة والوحدات الخاصة، الذين كانوا تحت إمرته حتى قبل عدّة أشهر.
وبالرغم من مشاهد العنف هذه، والضغط الذي مورس على وزير الأمن، يوآف غالانت، إلا أن الأخير وبعد لقائه نتنياهو، تراجع في «الدقيقة الـ90»، بناءً على طلب من رئيسه، عن عقْد مؤتمر صحافي كان سيدعو فيه زملاءه في الحكومة إلى وقف التشريعات القضائية والشروع في حوار مع المعارضة. ومن جهته، أرجأ نتنياهو سفره الذي كان مقرَّراً مساء أمس إلى العاصمة البريطانية لندن حتى الرابعة من فجر اليوم، بعدما اجتمع أيضاً مع عرّاب «الانقلاب» وزير القضاء، ياريف ليفين، الذي هدّد بالاستقالة إذا ما أوقف الأول «الإصلاحات القضائية». وطبقاً لوسائل إعلام إسرائيلية، فإن غالانت أطلع نتنياهو خلال اجتماعهما على «صورة الوضع الأمني»، والتي انعكست عليها التشريعات الأخيرة سلباً. ومع ذلك، أعلن رئيس الحكومة، في خطابه، أن الإصلاح القضائي مستمرّ، ومِثله «صَدّ التظاهرات ومنْع تخريب الشوارع». وادّعى نتنياهو أنه «يتفهّم مخاوف المعارضة والائتلاف على حدّ سواء»، مشيراً إلى أن «الإصلاح القضائي يجب أن يوفّر استجابة لمطالب الجانبَين». ولفت إلى أن المعسكر المعارض «يخشى من قرار من شأنه أن يسمح لغالبية صغيرة في الكنيست بإلغاء قرارات المحكمة العليا. لن يحدث هذا».
وبما أن نتنياهو كان ممنوعاً من التدخّل في التشريعات التي يَدفع بها ائتلافه - بسبب قضايا الفساد التي تورّط فيها - منعاً لـ"تناقض المصالح"، فقد أكد، أمس، صراحة أنه بات حرّاً، قائلاً: «حتى اليوم كانت يدي مقيّدة. وصلنا إلى وضع سخيف حيث هدّدوني بالعزل. هذا شيء عبثي وغير ممكن في دولة ديموقراطية». وأضاف: «لذلك أعلن الليلة: هذا يكفي، وصلنا إلى الحدّ الذي لا يمكن السكوت عنه. أنا أدخل الحدث». وفي الوقت نفسه، دعا نتنياهو إلى الحوار، منوهاً إلى «(أنّني) سمعت مخاوف غالانت وأخذت كلّ شيء في الاعتبار، وفي الوقت نفسه سأقول مرة أخرى إنه لا مجال للرفض»، رافضاً وصف المتظاهرين بأنهم «خونة» وأعضاء الائتلاف الحاكم بأنهم «فاشيون»، معتبراً أنه «لدينا دولة واحدة وعلينا أن نفعل كلّ شيء لحمايتها من التهديدات الخارجية ومن التصدّع من الداخل».
في المقابل، دعا زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، في بيان أصدره مساء أمس، «الأعضاء المسؤولين» في «الليكود» إلى «وقف ياريف ليفين»، وزير القضاء الذي وصفه لابيد بأنه «صوت نتنياهو واليد المنفذّة». أمّا وزير المالية السابق، وزعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، فاعتبر أن «(نتنياهو) يتصرّف مثل الأرنب أمام نصرالله والسنوار، مقوّضاً قدرة الردع الإسرائيلية. أمّا أمام أصدقائه في الليكود فيتصرف كالأسد، إنه لأمر مخزٍ»، مضيفاً أن «الصراع الحالي في المجتمع الإسرائيلي ليس بين اليسار واليمين، لكن بين أولئك الذين يخدمون في الجيش، ويعملون ويدفعون الضرائب، وبين أولئك الذين يلهثون وحلفاؤهم من أجل الكرسي والمستعدّين لبيع كلّ قيمهم».
وفي خضمّ هذه «الحفلة» وجدت زوجة نتنياهو، سارة، مكاناً لنفسها دعت من خلاله الإسرائيليين إلى «تهدئة الأجواء والعمل للتوصّل إلى توافق واسع بشأن إصلاح القضاء». وقالت، في بيان، إنه «يتوجّب ألا نصل إلى إراقة الدماء والعنف والتحريض، حتى لو كانت لدينا خلافات في الرأي».