«الإفطار الأخير»: قوّة السينما السورية... بساطتها

«الإفطار الأخير»: قوّة السينما السورية... بساطتها

سينما

الخميس، ١٨ أغسطس ٢٠٢٢

في الدراما السورية، هناك شيءٌ يجعلها «ضرورية» للمشاهدة: العادية، البساطة، المباشرة، والصور المأخوذة من الواقع. يشرح بريخت «أبو المسرح الألماني» أنّ الدراما/المسرحية طالما أُخذت من الواقع اليومي بكل ما فيه من حياة، أضحت خبزاً ضرورياً للعيش، لا مجرد فنٍّ للفن أو ترفٍ لا حاجة إليه. الأمر نفسه وقف عنده «معلّم باهيا» الكاتب البرازيلي خورخي أمادو حين يشرح عن «تيريزا باتيستا» روايته الأثيرة: «إنها من الناس، والواقع الذي فيها يجعلها ضرورية كي يصبح القارئ جزءاً من مجتمعه».
من هنا، يأتي فيلم «الإفطار الأخير» (إخراج وكتابة عبد اللطيف عبد الحميد ــــ إنتاج المؤسسة العامة للسينما) الذي يؤدي بطولته عبد المنعم عمايري، كندة حنّا، راما عيسى وكرم الشعراني. الفيلم الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو في «مهرجان الإسكندرية السينمائي» بدورته الـ 37، يروي حكاية الخيّاط سامي (عبد المنعم عمايري) وزوجته رندة (كندة حنا) التي تخبره ذات صباح مليءٍ بالقذائف في سوريا، أنّ هذا «إفطارهما الأخير» معاً، وأنّها تشعر بأنها لن تعيش طويلاً «لأنّ القذائف كثيرةٌ هذا اليوم» على حد تعبيرها. سرعان ما يحدث ما تنبّأته رندة، لكن سامي الذي يشتغل في صناعة البزات لشخصيات سياسية وأمنية مهمة، يغرق في عمله، خصوصاً أنّ هؤلاء الأشخاص لا يراعون ظروف وفاة زوجته، إذ لم تكد ساعات تمضي على وفاته، حتى بدأوا بمطالبته بإحضار بزّاتهم. يظهر في الفيلم واقعٌ يعاش يومياً في دمشق، يذكّرنا بأفلام الحرب الأهلية اللبنانية، لناحية الحياة اليومية، إذ امتازت أفلام الحرب الأهلية اللبنانية بالخيلاء والدموية وتتبّع المقاتلين، فيما تروي معظم الأفلام السورية المقاربة للمرحلة، سلوكيات الناجين من الحرب، الجالسين تحت القصف في انتظار الموت. إنها الحياة اليومية التي يمارسها الناس ويعيشونها رغم كل شيء: القذائف، الموت اليومي، الإرهاب والقتل. إننا أمام قصة شبيهة بقصّة تشيخوف الشهيرة «الحوذي» الذي ماتت زوجته وبات يروي القصة لجميع من يعرفهم، لكنه لا يخرج من ظلّها أبداً. الزوجة (كندة حنا) تظهر له في جميع الزوايا والحالات، هو يراها ويتأثر برؤيتها، لا بل يخافها، وهذا ما يجعل القصّة مركبةً إلى حدٍّ كبير. يضاف إلى هذا نبيل (كرم الشعراني) صديق البطل، المثقف «الفقير». كرم الشعراني يشبه الجوكر لناحية مهارته الأدائية، وطبيعة الشخصية التي تكاد تكون مزيجاً من المتخيّل والمعتاد/ اليومي. نبيل يتحدّث «شعراً» غالبية الوقت، وهذا ما يخلق هامش نقاش بين «المتخيل» و«المحسوس». تصرّ الزوجة على أن يتزوّج سامي بفتاة معجبة به هي جمانة (راما عيسى) وسرعان ما يصبح ذلك جزءاً من القصة وواقعها.
أدائياً، أثبت عمايري علو كعبه منذ سنوات من خلال أدوارٍ معقّدة وأخرى تحتاج إلى اتساع اجتماعي. هنا يظهر الكثير مما في جعبته من مهارات: يبدو حزيناً مكسوراً حال فقدانه زوجته، محطّماً مسحوقاً أمام الرجال الأقوياء -زبائنه النافذين- الذين يسلّمهم بزّاتهم؛ عشيقاً محباً وحتى زوجاً شغوفاً أمام زوجته. كندة حنا، تحاول كثيراً خلق أدائها الخاص، لكنها متأثرة كثيراً بما تؤديه كاريس بشّار. مثلاً، هي تشبهها في مشاهدها العاطفية. أما في مشاهدها «الأقوى»، فهي أقرب إلى نفسها. بدوره يبذل كرم الشعراني جهداً كبيراً في كل لحظةٍ يمر بها على الشاشة. إننا أمام ممثل جيد يستفيد من كل لحظاته ليجذب الكاميرا والاهتمام، وهذا يذكّرنا بالممثلين السوريين الماهرين. أما راما عيسى، فماهرة في دور «الفتاة المرغوبة/ المشتهاة».
يقدّم المخرج عبد اللطيف عبد الحميد لغة واقعية مباشرة
تمتلك عيسى مهارات تذكرنا بنجمات الجيل الذي يسبقها كسلافة معمار أو سلاف فواخرجي.
إخراجياً، يقدّم المخرج وكاتب العمل عبد اللطيف عبد الحميد (1954) لغة سينمائية واقعية مباشرة: الأبطال يمارسون حياتهم اليومية بشكلٍ عادي. ولا يتوانى عن إدخال لغة ساخرة، تجريبية، بسيطة ومعقّدة في آن، مشابهة للتجارب الروسية القديمة، خصوصاً أنه من خرّيجي موسكو. وقد شارك عبد الحميد في الفيلم بدور أبو يوسف المسنّ الذي يزوره سامي ليتحدّث معه عن رحيل زوجتيهما عن الحياة. هذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها عبد الحميد كممثل، إذ سبق أن شارك في عددٍ من أفلامه في أدوارٍ صغيرة.
بقي أن نشير إلى أنَّ الفيلم حظي بضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، للأسباب الخطأ للأسف: إذ جمعت بين البطلين عمايري وحنا قبلة في مشهدين، خلقت ضجيجاً قد يكون ذا تأثير سلبي على الفيلم. ذلك أن هذا المشهد عرضي لا يؤثّر في سياق الفيلم نفسه. هل كان من الأفضل أن تحذف هذه المشاهد لصالح العمل وقوته، لا الضجة «الخاطئة» حوله؟ سؤال يُترك للمخرج وصنّاعه بالتأكيد.