المدارس المختلطة.. خطوة تربوية تخفف الفجوة وتقلّص حالة الاغتراب بين الجنسين

المدارس المختلطة.. خطوة تربوية تخفف الفجوة وتقلّص حالة الاغتراب بين الجنسين

شعوب وعادات

الأربعاء، ١٨ سبتمبر ٢٠١٩

كثيراً ما نسمع عن كلمات أو جمل تسود في المجتمع تدل على حالة التفرقة بين الجنسين كوصف فتاة بأن شعرها مثل شعر الشباب، أو مشية هذا الشاب كالفتيات، أو كلامه كذلك، وغيرها الكثير من الأوصاف التي تندرج تحت مسمى السخرية في مجتمع تشرّب ثقافة التمييز بين الجنسين منذ أمد طويل، فوضع كلاً منهما ذكراً وأنثى في قالب خاص، وفرض قيوداً لا تعرف المساواة أو التكافؤ، وتشكّل هذه الحالة من التمييز مشكلة ربما لا تظهر بشكل واضح في الطفولة، ولكنها في النهاية سوف تصنع جيلاً لديه مشكلة حقيقية بالاختلاط مع الجنس الآخر، ومع تعدد أسباب تكريس هذا التمييز، يبقى للتعليم دور كبير في ردم الفجوة بين الجنسين، وترسيخ الثقافة والتربية الاجتماعية السليمة، فأين وصلت التربية في هذا المجال؟ وماذا عن تجربة خلط المدارس في السويداء؟ وكيف تعامل معها المجتمع؟.
 
محبة وأخوة
قصة مجموعة من الشباب والشابات، وهم اليوم طلاب جامعة في فروع واختصاصات متنوعة، استوقفتني، حيث تقول القصة: إن هذه “الشلة” كانت تدرس معاً في الشعبة ذاتها في مختلف المراحل الدرسية الابتدائية، والإعدادية والثانوية، وهم منذ الصغر معتادون على اللقاء الدوري، ومازالوا على التقليد ذاته، ولم يمنعهم اختلاف اختصاصاتهم من متابعة تقليدهم في اللقاء والحوار والنقاش.
ولا شك أن أساس هذه الحالة هو المدرسة المختلطة، والكادر التدريسي الذي عزز في نفوس هؤلاء الشباب حالة الأخوة التي انتقلت معهم في مراحلهم العمرية المختلفة لتتحول إلى جزء من حياتهم الاجتماعية، وبالتالي تنعكس كحالة اجتماعية متطورة ومتقدمة في العلاقات الإنسانية.
 
رقي فكري
ثلاث مدارس جديدة قامت تربية السويداء بخلطها، في خطوة لتعميق تجربة المدارس المختلطة في المحافظة، والتخلص من ظاهرة فصل المدارس، تضاف إليها ثلاث مدارس تم خلطها العام الماضي، لتبقى ثانوية وحيدة على مستوى المحافظة، وهي توفيق مزهر إناث، مراعاة لرغبة الأهالي، كما تقول مديرة التربية المساعدة لينا حمزة التي بيّنت أهمية هذه التجربة في تحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي عند الطلاب.
“البعث” جالت على عدد من المدارس، والزيارة الأولى كانت لمدرسة شكيب أرسلان التي لم يعتد طلابها سابقاً على وجود الفتيات بينهم، فاللونان الأزرق والزهر أعطيا حيوية ورونقاً خاصاً لتلك المدرسة كما وجدناه، هكذا شرح الطالب ثائر حاتم الحالة، وقال إن هذه الخطوة إلى الأمام ونحو النجاح، ونحن قد خطونا هذه الخطوة على طريق النجاح والرقي الفكري، ويجب التعوّد على هذا الخلط بما أن الطالب يبدأ مرحلته الابتدائية في مدرسة مختلطة، ويكمل مرحلته الإعدادية بمدرسة مختلطة أيضاً، ثم يدخل إلى المرحلة الثانوية التي تكون حياتها سلسلة جديدة، كونه يتم فصل الجنسين قبل اجتماعهما في الجامعات أو المعاهد، فلم لا تكون المرحلة الثانوية مختلطة، ويكمل الطالب حياة تعليمية كاملة دون الدخول في جو تدريسي ونظام جديد؟.
الطالبتان ماريا أبو عمار، ونور أبو عمار لم يختلف رأيهما كثيراً عن رأي حاتم، بل أيدتا فكرة الخلط بشرط أن يكون المديرون والمدرّسون قادرين على ضبط الطلاب، وإلزامهم بالقوانين المفروضة عليهم، وهي ناجحة حالياً، وخاصة أنها قادرة على خلق تطور من أجل التخلص من ظاهرة التفرقة بين الجنسين، وبهذه الطريقة تسود المحبة والأخوة بين الطلاب ذكوراً وإناثاً، ليستطيع الطرفان اختيار المدرسة التي يريدانها دون معوقات، وعندما يكون الجنسان متواجدين مع بعضهما يصبحان غير قادرين على التصرف بشكل سلبي أو غير أخلاقي، وهذه الطريقة جيدة، وكان يجب أن تطبق في المدارس منذ سنوات عدة سابقة لكي يتم تطوير التعليم، وتحقيق النجاح العلمي، أما بالنسبة إلى النظام والانضباط في المدارس فهذا يتم بشكل منسّق وجميل ومنضبط أكثر من السابق عندما كانت كل مدرسة منفردة بجنسها، وفي الوقت الحالي أصبح هناك تطور في الالتزام بالآداب بشكل كبير.
الطالبتان ياسمين الذّيب، ومروه تؤيدان جزئياً الفكرة، وإن كانت ستنعكس على خصوصية كلا الجنسين، لكن إيجابياتها تعكسها حالة المعاملة الأخوية والصداقة بين الجنسين التي تحفز على قوة الشخصية، وتفيد في بناء العلاقات المستقبلية الصحيحة، وكلا الطرفين يحس بالقرابة إلى الآخر، والتعاون المشترك، كون الحياة خارج المدرسة تتطلب مثل هذه الأمور.
 
حوار إيجابي
اختصاصيو الصحة النفسية يحذرون من خطورة الفصل بين الجنسين في أعمار مبكرة يمكن أن تذهب أبعد من ذلك فتؤدي إلى انحراف اجتماعي يتمثّل بالانطوائية، أو الاندفاع الشاذ تجاه الجنس الآخر، فاحتواء المرحلة والتعامل معها بشكل إيجابي يشكّل أحد أركان العملية التربوية التي يجب أن تعتمد على الحوار مع الشباب، وتوفر عملية الدمج في المدارس فرصة لتشجيع هذا الحوار، فالمرشدة النفسية نجاح الحلبي ربطت أهمية الخلط في المدارس بالحالة الاجتماعية والنفسية للشباب في هذه المرحلة، فحالة العيش المشترك بين الجنسين موجودة في كافة مراحل حياته، وموضوع المدرسة يحب ألا يختلف عن الحياة العادية، وتساءلت الحلبي عن كيفية تقبّل الفكرة في المرحلة الإعدادية، حيث إن الطالب في أوج حالة المراهقة، ولم نتقبلها في الثانوية، حيث تزداد حالة النضج عند الشباب.. لا شك أن الحلبي هنا تشير إلى موضوع التنشئة الاجتماعية، وأهمية تواجد الإناث والذكور في المدرسة ذاتها لما يلعبه ذلك من دور في التقليل من حالة الاغتراب بين الجنسين بشكل أكثر وعياً وإيجابية.
أما نفسياً فإن الاختلاط يلعب دوراً مهماً في تلبية حاجة مهمة عند الجنسين في التعرف على بعضهما كنوع من الفضول على الأقل، وهنا تلعب المدرسة دوراً مهماً في ذلك بشكل تلقائي وطبيعي، ما يشجع فكرة الزمالة والأخوة، ويساعد على النمو الطبيعي للتفكير الإيجابي عند الجنسين، وبالتالي ينعكس إيجابياً على تطور المجتمع، والعلاقات الاجتماعية فيه.
وأشارت الحلبي إلى قضية أساسية وهي نوع المشاكل التي تبرز، وبالتالي لابد من وجود تصور مسبق للحلول التي يجب وضعها، مؤكدة أن هذه المرحلة هي مرحلة إثبات ذات، واستقلالية بالرأي، وحرية التعبير، وبالتالي لابد من وعي خصائص هذه المرحلة العمرية، والتعامل معها بشكل سلس، وهذا الأمر توفره عملية الدمج التي تعطي فرصة أكبر لإثبات الذات، وتكوين الشخصية بشكل إيجابي لجهة اهتمام الجنس برأي الجنس الآخر، ونجد أن هناك اهتماماً بالإيجابيات التي تعكسها الحالة، والتقليل من السلبيات، ومنها العنف في التعبير عن الرأي، واختلاط المدارس لا يشكّل مشكلة بالنسبة للموجهة التربوية جمانة حمزة، خاصة في محافظة السويداء، حيث تستقبل النساء الضيوف في المضافات، وتقوم بواجب الضيافة كاملاً في حال غياب الرجال، والمرأة تقف جنباً إلى جنب في مختلف مجالات الحياة، والحالة غير الصحية بالنسبة لحمزة هي عملية الفصل في أحد هذه المجالات، وهي مرحلة التعليم الثانوي، والحالة السوية أن تكون المدرسة مثل الأسرة الواحدة، فيها الإخوة والأخوات والآباء والأمهات.
 
تهذيب وتفوق
عملية خلط المدارس ليست حالة جديدة في السويداء، فحسب إحصائيات مديرية التربية، توجد 395 مدرسة تعليم أساسي مختلطة، إضافة إلى 30 ثانوية صناعية مختلطة، وكذلك 41 ثانوية عامة، وتم هذا العام خلط ثلاث ثانويات جديدة، مع مراعاة التوزع الجغرافي لتلك المدارس، حسب مدير التربية بسام أبو محمود الذي بيّن أن لاختلاط المدارس أهمية تربوية كبيرة، حيث تنعكس على سلوك الطلاب لجهة تهذيبهم وتقويمهم، وكذلك على المدرّسين، حيث لا يستطيعون توجيه كلام جارح في حال وجود الجنسين معاً، وكذلك لجهة الإقلال من نسب الشغب.
وبيّن أبو محمود أنه من خلال دراسة واقع المدارس نجد أن نسب التفوق تزداد بشكل ملحوظ في المدارس المختلطة، بالمقابل تزداد نسب المشاكل في المدارس غير المختلطة، مؤكداً أن حالة الخلط خففت الكثير من المظاهر التي كانت موجودة سابقاً.
مدير ثانوية فواز البدعيش مؤنس العصفور، والتي كانت سابقاً للإناث فقط، بيّن أن عملية الخلط وفرت مناخاً إيجابياً في المدرسة، ولكن حمّلت الإدارة أعباء إضافية، وأصبحت بحاجة إلى تغيير وتعديل أسلوب التعامل للمواءمة مع الوضع الجديد، فالواقع الجديد انعكس إيجابياً على واقع الحصة الدراسية لجهة التخفيف من حالات الشغب، والانضباط، والنشاط داخل الدرس، ولكنه زاد من مسؤولية الإدارة في عمليات المتابعة والمراقبة، وهذا يحتاج إلى زيادة عدد الموجهين والمنشطين للقيام بعملية الضبط على أكمل وجه.
المدرّسة ألفت القنطار، وهي مدرّسة لمادة الفيزياء، أكدت أن اختلاط الطلاب أدى إلى وجود حيوية ومنافسة ونشاط داخل الحصة الدراسية، وزاد نشاط الطلاب ومناقشتهم، كما زادت حالات التهذيب بعكس ما كان سائداً في الفترة السابقة، وبدأنا نشعر بمسؤولية الذكور تجاه الإناث كحالة أخوية بدأت تبرز.
المدرّسة سهام نعمان من مدرسة شكيب أرسلان قالت إنها تؤيد هذه الفكرة لأنها طريقة مثلى للتخلص من الكبت والتخلف، فعندما يتعامل الطلاب والطالبات بشكل ودي تتلاشى ردود الأفعال السلبية، والآراء المجحفة بحق بعضهم، ما يؤدي إلى نشوء مجتمع خال من التخلف، لأن الطلاب يكونون قد تجاوزوا حالة النقص التي يشعرون بها تجاه بعضهم.
وأكدت نعمان أن التعامل مع الجنسين أفضل من جنس واحد، لأنهما مكملان لبعضهما، وأدى ذلك إلى جعل التعامل مع الطلاب أسهل للمدرّسين، وجعل الطلاب مهتمين بالدرس، وأيضاً المظهر الحسن للفت أنظار الطالبات، والتزامهم بالأخلاق الجيدة والتهذيب.
 
تعميم التجربة
فكرة المدارس المختلطة فكرة جدلية في كثير من المجتمعات، ألا أن محافظة السويداء تتجاوزها، ولعل تربية السويداء تعلن العام القادم أن كل مدارسها مختلطة، وتكون سبّاقة في تشكيل نموذج يحتذى للتكامل الاجتماعي، فالفكرة لاقت قبولاً اجتماعياً باستثناء بعض المعارضين لها الذين يحملون أفكاراً يسعى المجتمع لتجاوزها، ولكن حالة ارتياح بدت واضحة بانتظار تعميم التجربة، واتخاذ قرارات تناسب الحالة، ومنها زيادة عدد الموجهين والمرشدين للقيام بعملية الضبط على أكمل وجه لجهة الإشراف والمراقبة والمتابعة، وكذلك لابد من إعادة النظر بالمناهج لتتواكب مع عملية الخلط تلك، والأهم هو تعديل النظام الداخلي لمدارسنا بشكل ينعكس على الحالة التربوية السليمة فيها.
رفعت الديك-البعث