النكتة ابتسامة في وجه المشكلات

النكتة ابتسامة في وجه المشكلات

شعوب وعادات

الأربعاء، ١ يناير ٢٠٢٠

تماهت النكتة (الفكاهة) مع بدايات القرن التاسع عشر والذي يليه، مع أطروحات عالم الاجتماع  والفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر، ومن ثمّ سيجموند فرويد، اللذين رأيا أنّ الضحك وسيلة لتفريغ الطاقة العصبية المكبوتة، فأخذت أهمية كبرى في قراءة المجتمعات 
 
ومشكلات أفرادها.
 
وفي عصرنا الحالي، سهل وجود منصات التواصل الاجتماعي، ظهور الكثير من الصفحات والقنوات الاجتماعية، التي أُنشئت لعرض التعليقات والمواقف الساخرة في المجتمعات، كما ظهرت الكثير من البرامج الساخرة وما تقدمه من انتقادات للواقع بطريقة كوميدية، تحمل في طياتها الكثير من الفكاهة والضحك على الرغم من مرارة حقيقتها وسوداويّتها. كما يمكن القول إنّ النكتة هي وجه آخر للمقاومة الثقافية في المجتمعات.
 
 إبداع النكتة
 
تتطلب النكتة نشاطاً ذهنياً خاصاً، فلا يمكن أن تنشأ بين السذج، وإنما بين الطبقات التي تعيش الحياة في أعمق أعماقها، والنكتة الحقيقية صناعة دقيقة تحتاج لحيز زمني محدود، وهي تهدف للوصول إلى إدراك مفاجئ لبعض مظاهر الحياة التي لا يدركها الناس بوضوح، ويتحقق هذا عن طريق المقارنة والمفاجأة، عندما يتحرك الوعي بين الأشياء الحسية والمعنوية فيحللها، ثم تنتهي للإنسان قواه التصورية وذاكراته، فيقارن بين المدركات ويجمع بينها في وحدة جديدة ساخرة.
 
 أنواع النكت
 
للنكتة أنواع متعددة، كالساخرة من الحموات، والسلبيات كظاهرة الدروس الخصوصية والأغبياء والبخلاء، وهناك نكات اجتماعية واقتصادية، وجميعها أصبحت موضوع دراسة العديد من المراكز البحثية العربية في الآونة الأخيرة؛ بوصفها تعبيراً لقياس اتجاهات الرأي العام ومعرفة رؤيته للقضايا المطروحة على الساحة، خاصة أنها لم تعد مقصورة على مجالس النكتة بل انتشرت عبر الإنترنت.
 
 الابتعاد عن الإسفاف
 
تبعاً للطبيب النفسي خليل أبو زناد، هنالك طريقة تقوم على استخدام تقنيات الاسترخاء واليوجا، من خلال تعلم منعكسات تنفسية وتمارين خاصة، إذ يلجأ عدد من مستشفيات الأطفال في أوروبا، لاستقدام مهرجين للترويح عنهم والمساعدة في نسيان الآلام والصمود في وجه المرض. ويوضح أبو زناد أن النكتة وسيلة دفاع متعارف عليها في علم النفس، يكثر استخدامها عند الشعور بالكبت وتعمل على حماية الإنسان وتعكس فهمه للأحداث، موضحاً: «النكتة وسيلة لمعرفة الرغبات المكبوتة للشخص والمجتمع. حول المحرمات وكل ما لم يتم الحديث عنه علانية، وبالتالي، يتم حظره بطريقة ما من النظر الواعي. كما يمكن أن يكون لهذه النكات كل ما يتعلق باللاوعي، وقد تفتح طريقاً لتعرف بعمق الواقع الشخصي للشخص وثقافته». ويضيف أبو زناد: «الضحك مسكن طبيعي للألم، ويحسن مناعة الجسم، ويخفف الضغط، ويساعد على تجاوز المخاوف والمشكلات، وتزداد الحاجة للنكتة في أوقات الأزمات وكذلك في أوقات الاسترخاء والراحة، ولكن إذا أصبحت النكتة فيها الكثير من الاستخفاف والتهريج، وأصبحت تجرح وتخدش، فهذا يعرض الذوق العام للإسفاف، لذلك فمهما كان ما يقوله المرء مضحكاً في وقت خاطئ، لن يعجب الناس أبداً، وإن كان ما يقوله أمراً شبه طبيعي في وقت مناسب للمزاح، سوف يجد الضحكات تنفجر من حوله، المهم هو اختيار الوقت المناسب».
 
سلاح الصامتين
 
يقول مدير مركز دراسات الوحدة في صنعاء، ووزير الثقافة اليمني السابق، الدكتور عبد الوهاب الروحاني، إنه عندما تشتد أوجاع الناس وتطحنهم الأزمات يهربون عادة إلى نسج النكات وإنتاج القصص الطريفة التي تضحكهم وتخفف من معاناتهم وتروح عنهم من قسوة وبطش هذه الأزمات والمتاعب التي يواجهونها. والنكتة، والحديث للروحاني، هي وسيلة التعبير الشعبية الأكثر انتشاراً وتداولاً بين الناس، وهي متنفس نقدي ساخر، يكتنفه شيء من الخيال والخفة والجمال، وتوصف بكونها «سلاح الصامتين» في الثقافة الإنسانية، وهي تندرج في إطار الأدب السردي، ولكن الذي يعتمد على الإيجاز وتقديم صور مكثفة في الشكل والمضمون.
 
 مصدر النكات
 
يكون مصدر النكتة في الغالب مجهولاً، لأنها تنتج في تجليات إنسانية عابرة، كرد فعل لأعمال ومواقف مرفوضة، يعبر عنها بمضمون مضحك ومركز، تحكى النكتة في العادة شفاهية، ويتداولها الناس مروية وليست مكتوبة، ويحكيها أناس موهوبون ذوو جاذبية خاصة، وتعبيرات جسدية لافتة، يتمتعون بروح الدعابة والطرافة، فهم يعكسون الصور والمشاهدات والأحداث اليومية التي يتابعونها أو يقفون عليها في شكل قوالب خبرية مقتضبة مثيرة للضحك والسخرية. شعوب العالم كلها تقريباً تتشارك في خاصية إنتاج النكتة، وكلها تميل إلى الضحك والسخرية.. ولكن «المضحك» في النكتة عند علماء الاجتماع هو الذي لا يخرج عن المفهوم «الإنساني»، في الإثارة ولفت الانتباه، أي بما لا يتجاوز مشاعر وأحاسيس الناس، ولا يتعرض لدخائل الأشخاص والأسر، ولا يمس كرامتهم وإنسانيتهم. وعند العرب، عرف الشعب المصري بأنه أكثر الشعوب العربية إنتاجاً وتداولاً للنكتة، فهو صاحب روح خفيفة ونكتة لاذعة، وارتبطت مادة التندر المجتمعية عندهم، بالفلاحين من أبناء «صعيد» مصر، الذين يوصفون بالبراءة والنقاء والتلقائية.
 
النكتة عند المفكرين
 
بالنظر إلى تعريف النكتة ووظيفتها عند الفلاسفة والمفكرين والأدباء الذين مرّوا خلال العقود والقرون الماضية، نرى أن للنكتة قوة لا يستهان بها، ويشارك في صنعها الأفراد والجماعات وتعتبر عوامل مثل الثقافة والزمن واللغة والتجربة الفردية للسامع جزءاً من مركباتها، فما يعتبر نكتة مضحكة في بلد أو لشخص ما لا يمكن فهمه في مكان آخر أو لدى شخص آخر، فلكل نكتة سياقها الذي يجب فهمه أولاً. وعن النكتة قال فريديريك نيتشه: «النكتة هي سخرية من موت الشعور»، في حين أسهب العالم النفسي سيغموند فرويد في كتابه «علاقة النكتة باللاشعور» بالحديث عن أنواع النكت ووظائفها المختلفة، وأثرها العميق وقدرتها على كشف الأفكار الحقيقية للإنسان من دون قصد منهم، وقدرتها الأهم على التنفيس وتخفيف الضغط عن طريق إضحاك الناس.
 
 تقوية الحس الجماعي
 
يرى علم النفس الاجتماعي أنّ حس الفكاهة كان مهارة فعّالة للغاية في إدارة التحالفات والصداقات بين المجموعات المختلفة، تماماً كما كان يساعد على التعامل بقدرة عالية مع النزاعات والخلافات والعلاقات المتوترة التي كانت تنشأ بين تلك المجموعات، أي أنها كانت وسيلةً للمحافظة على البقاء والاستمرار، مثلها مثل غيرها الكثير من المهارات الاجتماعية التي طوّرها البشر لهذا الغرض. ويوضح رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة البلقاء التطبيقية بالأردن، الدكتور حسين الخزاعي: «للنكتة وظيفة اجتماعية نافعة، لا باعتبارها أداة محافظة تضمن بقاء التقاليد ووسيلة نقد فقط، وإنما باعتبارها أيضاً وسيلة فعّالة لتحقيق ضرب من التغيير الاجتماعي، ووسيلة تنفيس عن الضمير الجمعي، حيث إن لكل مجتمع طريقه في الدعابة وأسلوبه في التفكه وأنماطه في إطلاق النكتة والضحك لها، وإن دراسة أخلاق الشعوب تتم من خلال نكاتهم، وإن من المؤكد أن الفكاهة هي خير مرآة تنعكس عليها أحوال كل مجتمع وما مر به من أحداث، وما اكتسب من مقومات وما اندمج في خلقه من سمات». ويؤكد الخزاعي وجود فوائد كثيرة للنكات في الحياة الاجتماعية، مثل تقوية التعاون الاجتماعي، وتنشيط العقل والإبداع والخيال، وفهم مطالب الآخرين، والتفاعل والتواصل مع الناس والتقرب إليهم وكسبهم في العمل العام، ومقاومة الاكتئاب والقلق والغضب.
 
العلاج بالنكتة
 
يقول  الإمام علي بن أبي طالب: «روحوا القلوب فإنها تمل كما تمل الأبدان». وقال أيضاً: «من كانت فيه دعابة فقد برأ من الكبر». ولقد تحدث الجاحظ عن فلسفة الضحك وأهميته في الارتقاء بالخلق وتطبيب النفوس، وكذلك ابن الجوزي مؤلف (أخبار الحمقى والمغفلين) وكتاب (الأذكياء) والتوحيدي مؤلف (المقابسات) وغيرها، كما أن له نظريات عميقة في تفسير الضحك، وفي بداية القرن العشرين تم الاعتراف بعلم نفس الضحك، فأشار فرويد إلى فوائده، كما اهتم علماء الفسيولوجيا بميزاته العلاجية. فالفكاهة قبل كل شيء تمرين عضلي وتقنية تنفسية ومنشط نفسي مزيل للتسمم الجسدي والمعنوي، كونها تعالج الاكتئاب البسيط والمخاوف والقلق والتوتر العصبي، فضلاً عن دورها في إرخاء العضلات وإبطاء إيقاع النبض القلبي وخفض التوتر الشرياني وتخفيف الأرق، ويستخدمها العلماء كاستراتيجية علاجية اسمها (جيلو ثيرابي).