هل أعذب الشعر أكذبه؟! … شعر خُلّبي لا يسمن ولا يغني من جوع!

هل أعذب الشعر أكذبه؟! … شعر خُلّبي لا يسمن ولا يغني من جوع!

شاعرات وشعراء

الأحد، ٢٤ يناير ٢٠١٦

صبحي سعيد قضيماتي
أنا عضو في جمعية أدباء الأطفال، لكن لا أفوّت فرصة لحضور اجتماعات جمعية الشعر.. لأني أرى أن الشعر هو رحيق الإبداع، لذا أحاور الشعراء لنرتقي بالقصيدة، التي أرى أنها هي الأقدر، والأكثر كفاءة على أن تكون الإمام الأشد صفاء وإيمانا بدور ريادي وفاعل في تطور ورقي المجتمعات. والمسرح أيضاً دوحة من رياض الشعر. وقد سمي الشعر نبياً، لأنه نبي في الإبداع.. والشعر ليس هو المكتوب، بل هو المصوَّر، والمرسوم.. وقد تكون ابتسامة الحبيب، زهرة من أزهار الشعر، أو ومضة (نفحة) من شذى الشعر الذي يسحر الألباب.. وليس الشعر إلاّ ذلك العشق الجنوني الهادر، الذي يبشر برقُه بالغيث.. بعد قحط طويل.

أما السبب الثاني: فيكمن فيما أراه من كَمٍ رهيب طاغ من (الشعر) الخلبي الكاذب.. فلست ممن يرى (أعذب الشعر كاذبه) بل أنا مع المتنبي في قوله: (شاعر المجد خِدنُه شاعر اللفظ كلانا رب المعاني الدقاق).. ويحق لمن يختلف معي حول: (الشعر الخلبي الكاذب).. فقد قيل (الورع الكاذب.. والإيمان الكاذب والحب الكاذب) فلمَ لا يمكن أن أسمي (المستشعر) الذي يحلم أن يغرد، فيأتي غناؤه كطحن الحجارة، (شعراً) خلبياً، لا يسمن، ويغني من جوع؟… والشعر في محنة شديدة.. وقد بدأت هذه المحنة منذ ايام الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي شعر بالخطر، فقام بتصنيف بحور الشعر.. وقد جسّد ابن الفراهيدي هذه المأساة، حين دخل على والده، فسمعه يموسق الشعر، فخرج شامتاً، يعلن للملأ أن والده قد فقد عقله، أو جُن. عندئذ خاطب الفراهيدي ابنَه قائلا:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني
أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فــــعذلتني
وعلمت انك جاهل فعذرتكا

وهذه اللوحة المأسوية، تتكرر، وتشتد مأسوية، كلما ازدادت كميات (الشعر) التي قال عنها المتنبي:
ولا تبالي بشعر بعد شاعره
قد أُفسِدَ القولُ حتى أُحْمِد الصممُ

حتى بتنا نفتقر إلى قارئ حقيقي، يميز بين قول طيب، وقول، لا يعرف قائله ماذا يريد إلى أن أصبح بعض (الشعراء) يتبجحون، بأن الشعر لا يُشرح أو لا يُفسر.. وكأن الشعر أصبح أيقونات للتقديس فقط.. ونسينا ما قاله أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني: (فقد وجدت الشعر أكبر علوم العرب، وأوفر حظوظ الأدب).. ونسينا ما قاله عمر بن الخطاب: (نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر، يقدمها الرجل أمام حاجته، فيستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم).. وقد اضحت معظم القصائد إن لم نقل جلها، صوراً عشوائية لا يجمع بينها خيط من المعنى.. وغدت القصيدة (كومة) من الأحجار، تحتاج بنّاء ماهراً.. وحتى لو استطاع (المستشعر) جمع أحجار كريمة، من هنا وهناك، إلاّ أن هذا الجمع، يحتاج إلى جواهرجي فنان، وخبير، يصيغ هذا الجمع في عقد فني متميز.. فالجواهرجي، فنان يملك علماً وخبرة عميقة.. والشاعر الحقيقي يملك خبرة وعلماً وموهبة.. لكن (مستشعري ما بعد… بعد.. بعد الحداثة..) لا يملكون خبرة وافية في الإملاء.. ولا في الأوزان.. ويطمعون في أن يكونوا شعراء مهمين. وهذه الكوارث ليست في حقول الشعر فقط، بل في حقول القصة أيضاً، والأدب بصورة عامة… ومن حقنا أن نستبشر بكل جهد أو محاولة إبداعية، لكن إخلاصنا لهذه المحاولات، ووفاءنا للإبداع، يفرض علينا أن نكون صادقين في قراءة هذه المحاولات (الإبداعية)، قراءة متأنية صادقة، تساعدهم على التطور والارتقاء، وليس على المضي إلى حالات (إبداعية) خلبية، غير واضحة المعالم، تفتقر إلى أبسط قيم الإبداع.

وعن شعر الحداثة
وإذا كان لكل مجال إبداعي، قاعدة معرفية، فمعظم (شعراء) الحداثة، وما بعد (بعد بعد) الحداثة، لا يحتاجون لأي قاعدة معرفية، أو علمية، حتى في قواعد الإملاء… أو الإلمام بمعلومات عامة عن علم العروض.. فأكثرهم، يظنون واهمين بأن القافية هي الشعر.. فيأتي التكلف في القافية ليزيد الطين بلة، ويحرق أي جهود إبداعية.. وفي جمعة الشعر سألت بود: (هل لدينا شاعر لديه علم كامل أو واف بعلوم العروض؟؟).. فلم أجد جواباً وافيا.. فعلوم (وليس علم) العروض واسعة عميقة، ولا يتقنها إلا المهتمون والمتخصصون جداً بها. ولا ننسى ما قاله عمار الكلابي:
ماذا لقيت من المستعربين ومن
قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إذا قلت قافية بكراً يكون لها
معنى، خلاف الذي قاسوه أوذرعوا
قالوا لحنت. فهذا الحرف منخفضٌ
وذاك نصبٌ، وهو ليس يرتفع

فهناك وجهات نظر، لكن ضمن حقول المعرفة والتفسير… وهذه صحة وعافية.. لكن ما يحصل في عالم الثقافة والشعر، والإبداع بصورة عامة، يجري خبط عشواء (وكل يدعي صحة الفهم والذوق)

القراءة
وكل هذه الأمراض، أو هذه المثالب في الإبداع، سببها الرئيس هو انعدام القراءة.. أعني هنا القراء، العادية (الآلية) التي لا تشترك فيها الحواس كلها (ليس فقط حاسة السمع أو النظر).. بل حاسة البصيرة، والخبرة، والذوق الرفيع، والخيال الخصب، والفضاء الرحب. نحن بحاجة أولاً إلى القراءة، التي بدل أن تتسع، وتتعمق، ونرتقي بها إلى مراتب أعلى، نشعر بأن القراءة يضيق نطاقها، وتأثيرها يوماً بعد يوم.. حتى الأدباء، باتوا يشعرون بتقصيرهم في إعطاء القراءة حقها من الاهتمام الجدي.. لقد تجمدت عروق شغف القراءة… ويبست أغصانها.. ولا يمر ببالنا خطورة ما يُقال عن اللغة العربية بأنها: (مهددة بالانقراض).. ولا يخطر في بالنا أن نرد بثقة وإيمان على من اتهم الأمة العربية بأنها: (أمة لا تقرأ.. وإذا قرأت لا تفهم.. وإذا فهمتْ لا تعمل..).. كيف نمضي في الحياة، وقد أصبحنا ـــ أمة لا تقرأ؟؟ وقد طالت، وأزمنت هذه الحالة، حتى غدت احتضاراً.. فكأننا لم نسمع أحمد شوقي يناجي الرسول (ص):
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصحاب كهف في عميق سبات

فما الذي يوقظ هذه الشعوب من سباتها العميق المزمن، غير القراءة الجادة؟.. وهل يمكن أن تأخذ القراءة دورها الفاعل في إيقاظ الشعوب من نومها ما لم يكن هناك برنامج وطني شامل يؤسس لنهضة ثقافية، تسعى لتقوم القراءة بدورها الحضاري الفاعل والمؤثر.. فما زلنا نفهم، ونتعامل مع القراءة على أنها كمالية في حياة الفرد والمجتمع… ولا ندرك أن للقراءة دوراً وأهمية فكرية وروحية وأخلاقي لا تقل أهمية عن الغذاء والماء.. فإذا كانت الحضارات لا تقوم إلا قرب الأحواض المائية، فإن أي حضارة، لا تقوى على الاستمرار والتطور، إلاّ بغذاء روحي وفكري وأخلاقي نستمده من القراءة.. وليس أي قراءة، بل قراءة الباحث العاشق، الذي يميز بين طعام وطعام. فكثيراً ما نرى أمهات لا يملكن معرفة كافية لاختيار الأطعمة الصحية المناسبة لأطفالهم، وليس لديهم دفع للبحث أو التمييز بين طعام وطعام، فكيف يمكن أن ننتظر منهن البحث عن الغذاء الفكري، الذي يُعتبر الطاقة الأهم لأي تقدم حضاري..
والقراءة تعني أن نقرأ سلوكنا وأفعالنا، ونمتلك الجرأة، والشجاعة في التميز بين فعل، وفعل، وبين سلوك وسلوك. إن انعدام الذائقة (الملكة) النقدية لدينا، يجعلنا نغوص أكثر فأكثر في أخلاق اللامبالاة، التي تسير وفق مبادئ (طنش تعش).. حتى وصلنا إلى أحكام سلبية، تزيدنا تخلفا وضعفاً.. فبتنا نسمع من يقول: (لم أجهل الحقيقة يوماً، ولكني مارست العمى باحتراف لكي أعيش)…..